القسم الأول
الأساليب والمبادئ العامة
1. تبني (القضية)
وجدت أغلب الناس – بما فيهم كثير من المفكرين والمنظرين - ينظر إلى المسائل التي تشغله: دنيوية كانت أم دينية نظرة جزئية تفكيكية. بمعنى أنه ينشغل بمسألة ما فيجعلها محط نظره ومحور اهتمامه وحركته ليهمل بقية المسائل. أو يعالج كل مسألة على حدة، دون أن يسلكها بخيط واحد، ويرجع بعضها إلى بعض. وهكذا يفعل كل فريق. وفي النهاية ينقسم المسلمون في البلد الواحد أقساماً غير متجانسة، تتنافر فيما بينها وتختلف تبعاً لاختلاف المسائل التي تبناها كل فريق على حدة دون اتفاق أوتنسيق. وهذا ما نهى الله عنه وذمه بقوله: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (المؤمنون:35). إن هذا يقطع المقتسمين أنفسهم ويحيلهم شيعاً وأحزاباً متنافرة كما قال تعالى: (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) (المائدة:14). فأخذبعض الدين ونسيان بعضه يؤدي إلى هذه النتيجة المأساوية.
وللخروج من هذا المأزق لا بد من اللجوء إلى نظرية (القضية). فبها وحدها نتمكن من حل جميع الإشكالات، ونعطي جميع المسائل الممكنة ما يناسبها من اهتمام.
إن نظرية (القضية) تعلمنا – نحن كإسلاميين - أن للدعوة محوراً هو المشكلة، أو
المسألة الكبرى في الواقع المعين تدور حوله (القضية) استناداً إلى قاعدة التوحيد.
إن محورية الدعوة لا تعني أبدا إهمال المسائل الأخرى غير المحورية، وهي تقترب أو تبتعد عن المركز الذي تستقر فيه المسألة الكبرى وتتحرك لتكون هي محور الاهتمام أو (القضية). بل الأمر على العكس تماماً. فإن وضع اليد على المحور، وتشخيص (القضية) يعطي لبقية المسائل أهميتها وحيويتها كلاً بحسبها، ويحركها ليجعلها تدور في فلكها الخاص بها وهي تنشدُّ إلى المحور بدل أن تظل جامدة ميتة، أو مغلفة لا حراك فيها.
إن (القضية) هي النظام أو السلك الذي يشد حبات العقد ليصنع منها تركيباً جميلاً مترابطاً. وبفقدان ذلك النظام أو انقطاع السلك تنفرط الحبات أو الخرز فلا يبقى هناك عقد. إن لكل دعوة قضية تنبع من واقعها تشد المسائل المطروحة كما يشد النظام حبات العقد فإذا انفقدت (القضية) انفرط عقد هذه المسائل وفقدت حيويتها وصارت بلا هدف يمكن تحقيقه من ورائها.
وبهذا يتبخر الاعتراض القائل بأن الدعوة لا يصح أن تحصر في قضية مواجهة التشيع أو المشروع الإيراني، وتهمل بقية القضايا. حيث قد أصبح واضحاً أن تبني هذه القضية لا يلغي أياً من القضايا المطلوبة، بل يمنحها الحيوية والحياة، ويجعلها تتحرك وتدور حول محور يمور بالفاعلية والحركة والنشاط :
فمن جعل التوحيد وتصحيح العقيدة غايته نقول له: إن هذا المطلب أول خطوة في طريق (القضية).
ومن جعل التقوى والتزكية القلبية شاغله نقول له: إن هذا هو لب التوحيد وعماد العقيدة.
ومن جعل العبادة هدفه ووجهته نقول له: إن (قضيتنا) لا يصلح لحملها إلا جيل عابد.
ومن جعل الجهاد طريقه ووسيلته قلنا له: لا (قضية) بلا جهاد، ولا جهاد بلا (قضية). وجهادنا أعظم الجهاد في الواقع الذي نعيشه لأنه يجاهد المنكر الأكبر والأصعب فيه.
ومن أراد حشد الناس وتأليفهم، وتنظيمهم في جماعة معينة، قلنا له: إن الحشد والجمع لا بد أن يكون من أجل (قضية)؛ فالقضية الحقيقية أعظم وسيلة لتحقيق هذه الغاية. فتبني هذه القضية تحل مشاكل العراق دينياً واجتماعيا وسياسياً.
ثم.. إن (قضيتنا) لا تنجح دون وعي بالسياسة والواقع وما يدور في العالم.
وتحتاج إلى معرفة عميقة بالنفس البشرية وصيغ التعامل معها والسنن الكونية في التغيير.
والى معرفة بالكتاب والسنة والسيرة والتاريخ والجغرافية كذلك. واللغة والعقائد والفرق.
وإلى التعرف على الدسائس والمؤامرات وعلاقات الفرس باليهودية والصليبية.
ولا يحملها إلا وطني صادق وعروبي غيور.
... وهكذا ما من مسألة ولا علم مهم أو ضروري إلا وتجد القضية في حاجة إليه،وتعطيه من الاهتمام ما يناسبه. فرق جوهري هو أن هذه المسائل والعلوم تكون حية متوهجة متحركة حين تكون في خدمة (القضية)، وميتة خامدة جامدة حين تنعزل منفردة على قارعة الطريق.
ولعل سائلاً يسأل: ما هي قضيتنا نحن أهل العراق، وبقية المناطق أو الأقطار المشابهة؟ فأقول: إننا في العراق نواجه – ومنذ فجر التاريخ - خطراً هو أكبر الأخطار بل هو مجمع الشر وأم الخبائث من الشرك والنفاق واستباحة الدماء والأموال والأعراض والطائفية والفرقة والتآمر والكيد والدس والاغتيال الفكري والجسدي والولاء للأجنبي والطعن في الكتاب والسنة والتاريخ والرموز…الخ. وقد استطاع أن يجند لصالحه الملايين.
هذا الخطر هو الشعوبية أو المجوسية المقنعة. إنه التشيع الفارسي أو الصفوي. إنه الغزو الشرقي قبل الغربي. فالوقوف بوجه هذا الخطر هو (قضيتنا) الأولى. وهيالقضية التي نستطيع توجيه كل الجهود نظريا وعملياً علماء وعامة قادة وجماهيرباتجاهها، وحشدها لحلها وعلاجها.
2. التكرار والطرق المستمر
قد يتغير الفرد بالحوار الشخصي، والأساليب العقلانية في دوائر النقاش، وتبادل الآراء في اللقاءات الخاصة، والاجتماعات المحدودة. ولكن المجتمع سيظل في عزلة عن هذا التغيير. ولا يتأثر به إلى الحد الذي يمكن اعتباره كبيراً وشاملاً، ما لم يحصل الصدع بالفكرة مع الطرق والتأكيد المستمر العلني بها، ويستغرق ذلك زمناً قد يطول جيلاً أو جيلين تبعاً لتوفر العوامل والظروف المطلوبة. على أن يكون قوياً مؤكداً وجازماً.
إن (العقل الجمعي) للمجتمع لا يتغير قط إلا بهذا الأسلوب، الوحيد الذي يمتلك الفاعلية على جعله يتأثر ويستجيب - بلا وعي، وشيئاً فشيئاً - لدواعي الفكرة، التي ستتغلغل فقراتها على مدى الزمن المطلوب، حتى يأتي يوم يكون فيه مهيأً للضربة الأخيرة فيسقط الجدار. وقد يكون سقوطه فجأة؛ لطول ما تفاعلت فيه عوامل التغيير. مثله كمثل بحيرة ماء تضرب أمواجها جداراً من طين، أو تحفر في ذراته شيئاً فشيئاً. إنه يتصدع - ولو ببطء - حتى يأتي يوم فينهار. وبهذا الأسلوب تمكن أهل الباطل من نشر باطلهم.
يقول د. علي الوردي: إن عيب البرهان المنطقي أنه لا يستطيع أن ينمي في النفس عقيدة. فالعقيدة بنت الإيحاء والتكرار. ولهذا السبب نجد وعاظنا ومفكرينا لا ينجحون في تبديل أخلاق الناس، أو تغيير عقائدهم إلا نادراً. فهم يحاولون دائماً أن يقنعوا الناس عن طريق الجدل، وإقامة الدليل، وما أشبه. هذا بينما الناس يسيرون في أمورهم الفكرية والاجتماعية على أساس ما انطبع في عقولهم الباطنة من أفكار وعادات وقيم. فهتلر لم يبعث في الأمة الألمانية تلك الحماسة، وذلك التعصب العجيب لآرائه بواسطة الإقناع المنطقي. إنما هو قد فعل ذلك بالإيحاء والتلقين والتكرار، وبواسطة الاحتفالات والاجتماعات والاستعراضات: حيث كانت الموسيقى تعزف، والأعوان تهتف، والرايات تخفق، والطيارات تملأ بهديرها الفضاء.
إن كلمةً تكرِّر قولها على نفسك مرة بعد مرة لقادرة أن تطبع في عقلك الباطن شيئاً من الإيمان بها قليلاً أو كثيراً. والإيمان يزلزل الجبال كما يقولون.
ينتقد بعض الكتّاب القرآن لأنه يكرر القصص وآيات الوعظ مرةً بعد مرة، ويذكر الله وآثاره في الكون في كل صفحة من صفحاته. وما درى هؤلاء المغفلون بأن هذا التكرار الذي ينتقدونه هو الذي طبع في نفوس العرب ذلك الإيمان العميق بالله، وجعلهم يحطمون إيوان كسرى وعرش قيصر في سنوات معدودة1.
3. الصدع بالحق
الإسلام دين جماعي. أي جاء لتغيير الجماعة قبل الفرد. والإسلام ليس علاقة قاصرة بين الفرد وربه، مجردة عن المجتمع ، أو بعيدة عنه. نعم هو علاقة بين العبد أو الفرد وربه، ولكن من خلال المجتمع.
إذن جاء الإسلام لتغيير المجتمع، وتصدى لمخاطبته ككل، وليس لخطاب فرد أو مجموعة من الأفراد. لهذا اتجه الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوته إلى المجتمع، ولم يقتصر بها على الأفراد. فكان يصعد على جبل الصفا ويصيح في جموع قريش، ويغشاهم في نواديهم وأسواقهم، ومواسمهم. وهكذا فعل أصحابه رضي الله عنهم. ولم تشغله دعوته الفردية عن هذه المهمة الاجتماعية. بل سخر الأولى لخدمة الثانية.
إن منهج الإسلام التغييري الجماعي يقوم أول ما يقوم على الإعلان الواضح بالدعوة، والصدع المستمر - وبلا انقطاع - بالحق، وإنكار ما عليه المجتمع من باطل جهراً، دون الاكتفاء بطرح الأفكار في الزوايا الضيقة.
وكان ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم تطبيقاً أميناً لما جاء في ذلك من توجيهات الوحي الإلهي النازل عليه. كما قال تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر:94). وقال: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) (الكافرون:1،2). وقال: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ) (الأنعام:34).
بهذا الأسلوب توصل نبينا إلى تغيير المجتمع. وبه تمكن أهل الباطل من نشر باطلهم. مشكلتنا أن عامة دعاة أهل السنة عندنا يجنحون عند خطاب الشيعة إلى الاقتصار على الحوارات الخاصة المعزولة. أما الجهر بالحق، والإعلان الصريح به من خلال الوسائل التي تصل بصوتهم إلى المجتمع كمنابر الجمعة والإذاعة والتلفاز، والصحف وغيرها من الوسائل، فيتحاشونه كما يتحاشى المجذوم، أو أشد! وهذا أحد العلل الكبرى في مسيرة الدعوة والتغيير.
إن السكوت وعدم الإعلان بالحقيقة الصريحة في وسط المجتمع خشية أن نفقد عدة أشخاص تربطنا معهم علاقة من أي نوع، أو جاءوا إلى المسجد القريب مثلاً يؤدي إلى أن يظل المجتمع سادراً في غيه، جاهلاً بحاله، مستمراً في ضلاله. لأنه لم يجد أو يسمع من يعرفه بالحق من الباطل.
إن مجاملة المجتمع علناً، والاقتصار ببيان الحق من الباطل على الأفراد في المجالس الخاصة والأماكن المغلقة، لا يمكن – في يوم من الأيام ولم يحصل في التاريخ - أن يؤدي إلى التغيير الاجتماعي المطلوب الذي هو مهمة الإسلام الأولى، وينبغي أن يكون مهمة كل مسلم داع إلى الإسلام بحق.
إن الصدع بالحق يحرك السواكن ويثير العقول ويدفع النفوس باتجاه النقاش والجدل والحوار، الذي ينبغي أن نستثمره ونجعله - كما أوصى ربنا - بالحسنى وحسب الضوابط الشرعية. ويؤدي كذلك – وبقوة - إلى مراجعة الأفكار وإثارة الحوارات الذاتية والمثنوية مم
يعطي للأفراد فرصة اكبر للوصول إلى الحقيقة مستقبلاً وتنشيط الدعوة الفردية كذلك.
لا بد إذن من التفريق بوضوح بين أسلوب الإعلان بالدعوة خطاباً للمجتمع، وبين الحوار الفردي في الزوايا الضيقة أو اللقاءات الخاصة أو عن طريق العلاقات الاجتماعية الفردية، الذي لن يؤدي – في أحسن أحوال – إلى أكثر من تغيير أفراد معدودين، مهما كثروا لن يحدثوا تأثيراً له وزنه في تغيير معادلة المجتمع المختلة، بالاتجاه الصحيح، نحو الهدف المطلوب.
4. التكامل
إن هذا التأثير - حتى يتم - يحتاج إلى تكامل دعوي يقترن فيه الصدع بالحق من قبل ما يكفي من الدعاة والكتاب والخطباء والمفكرين والمحاضرين، الذين يتقدمون الصفوف، بالحركة أمام الجمهور الواعي المساند، الحامل لـ(القضية)، بعد أن يكون قد أدرك أبعادها مسبقاً بواسطة أولئك المتقدمين. فالصدع بالحق لا بد أن يقترن بالحركة من قبل ذلك الجمهور نحو الآخر، متمثلة بالحوار الشخصي، وتقديم الوسائل البيانية من مثل الكتاب الهادف، والمطوية، والمنشور، والصحيفة والشريط المناسب: مسموعاً كان أم مرئياً، وغير ذلك من الوسائل. إن هذا كله ينشط التغيير الفردي ويكسب باستمرار مزيداً من الأنصار الحقيقيين، وليسوا أرقاما فارغة لا قيمة لها. وفي الوقت نفسه نكون قد قمنا بواجبنا تجاه المجتمع الذي نأمل أن يتغير باتجاه الهدف متى ما تكاملت فيه عناصر التغيير ضمن مدى معين من الزمن. فلا بد من مرور فترة زمنية يأخذ فيها التغيير مستحقه من النضج والتأثير.
ما أسهل أن يجلس أحدهم على أريكته الوثيرة، يعدد أخطاء العاملين، ويقول: ماذا فعل فلان؟ وماذا عمل فلان؟ إن (فشل) فلان وفلان – إن كان - بسببك أيها (الحكيم)!.. بسبب قعودك واختيارك الراحة على العمل المفروض أن تقوم به. إن أجزاء العمل الدعوي كأجزاء العربة: المحرك، والإطارات، والجسم، والمِقود وبقية الأجزاء. وما لم تكتمل وتتكامل هذه كلها مع بعضها، لن تتحرك السيارة مهما كانت الأجزاء الأخرى متقنة وصالحة للعمل. وقد قام فلان وفلان بأداء ما عليهم من نصيب، لكن العجلة لم تسر؛ لأن جزءاً مهماً كان مفقوداً، وفراغاً ظل شاغراً ينتظر وصولك الكريم.
5. فضح الباطل وبيانه بالتفصيل
من أسباب انتشار التشيع قلة المتصدين لفضحه وتعريته بتفاصيله التي هو عليها. على العكس! فلقد قعّد الدعاة في المنع من ذلك قواعد أشهرها: "بدل أن تلعن الظلام أشعل شمعة" ، و "بيان الحق كفيل بزوال الباطل" . وأسقطوا قاعدة الرفق على هذا الموضوع؛ فصار عندهم كل من تطرق إلى باطل الشيعة وخزعبلاتهم من المتشددين المتعنتين. وما دروا – أو دروا لا أدري – أن دين الله تعالى مبني على تقديم مبدأ إنكار الباطل على بيان الحق. وأن فضح الباطل جاء فيه مفصلاً، بينما بيان الحق جاء مجملاً. حتى إذا دخل المرء في الإسلام جاء دور بيان الحق له بالتفصيل. وهذا المبدأ مذكور من أول كلمة يطالب بها الإنسان للدخول في رحاب الإسلام : "لا إله إلا الله". والله تعالى يقول: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:256). ويقول: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55). ويقول: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (الأنفال:37). فبيان الباطل، وفضح أهله مقصود إلهي مستقل بذاته، وهو شرط لبيان الحق لا يتم إلا به.
6. التأكيد على وجود عدو محدد
الحب لا يكفي: صحيح أن الحب أساس الدين، ولكن هذا لا يكفي وحده لاستثارة النفوس وتفجير الطاقات، بل لا بد لذلك من تهييج عاطفة الخوف من جهة معينة محددة؛ فإن غريزة حب البقاء أقوى الغرائز كلها في إثارة قوى الإنسان وتوظيفها في الهدف المطلوب. ومن أول سورة نزلت من القرآن العظيم كانت هذه القضية حاضرة فيه: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى*عَبْداً إِذَا صَلَّى) (العلق:9،10). وما إن أهبط أبونا آدم إلى الأرض حتى أنزل الله معه عدوه وخصمه إبليس، كما أخبر سبحانه فقال: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (البقرة:36). وشد القرآن أنظار المؤمنين إلى أعدائهم من الكافرين والمنافقين، وحذرهم منهم، وأمرهم بمجاهدتهم.
وجود العدو سنة كونية:وهذا يعني أن وجود العدو سنة من سنن الكون. وفي ذلك يقول تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً) (الفرقان:31)، ويقول: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:112).
والسر في ذلك – والله أعلم - أن الإنسان إذا أمن خمد، وقل نشاطه واندفاعه. فإذا تعرض أمنه إلى الخطر تحرك وانطلق، وتفجرت طاقاته من مكامنها، وبحث عمن يعينه ويعزز أمنه وحياته؛ فتزداد القوة، ويحصل التماسك بين المجموع. وهذا هو الأساس الواقعي الذي يبنى عليه التجمع والتوحد، الذي هو الشق الآخر للدين بعد التوحيد. بل إن المجموع الذي لا يحس بوجود عدو معين يرتد عدوانه إلى داخله فيتمزق المجموع. يقول جي. إي. براون: من الملاحظ أن الجماعة توجه العدوان إلى داخلها حينما تتوقف الأعمال الحربية. ويقول: إن الناس في حال الضيق يحتاجون إلى الكراهية؛ لأن الكراهية إذا أصبحت منتشرة هي أنجع العواطف توحيداً للناس1.
وليست هاتان الحقيقتان بعيدتين عن دعوة الإسلام وتوجيه القرآن : فنظرية الإسلام
في القتال تقوم على توجيه القوى متوازية إلى الخارج، وهذا هو الجهاد. وتحرم توجيه القوى متقاطعة إلى الداخل، وهذه هي الفتنة. والقرآن يقول: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ
وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَاوَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداًحَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) (الممتحنة:4).
ولأن إبراز وجود الخصم، والتلويح به دوماً أمام أعين المؤمنين ضرورة من ضرورات العمل الصائب لهذا الدين، أكد القرآن على أهمية تحديد الخصم، ووضوح صورته في ذاكرتهم فقال: (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً) (النساء:101) وقال: (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً) (الإسراء:53) وقال: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً) (فاطر:6). كما أنه قال: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55). وما أجمل ما قاله الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى في ظلال هذه الآية: (إن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق، ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحادده ويحاربه إنما هو على الباطل، وأنه يسلك سبيل المجرمين، الذين يذكر الله في آية أخرى أنه جعل لكل نبي عدواً منهم: ((وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين)) ليستقر في نفس النبي ونفوس المؤمنين أن الذين يعادونهم إنما هم المجرمون عن ثقة، وفي وضوح، وعن يقين. إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح. واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات؛ ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتد غبشاً وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم. فهما صفحتان متقابلتان وطريقان مفترقان، ولا بد من وضوح الألوان والخطوط .
ومنهنايجبأنتبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلاماتهم، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلاماتهم بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين).
وقد أجاد المجرمون دورهم في خدمة هذه المسألة العظيمة، والتلويح لشعوبهم وأتباعهم بخطر الأعداء والخصوم، من أجل تنفيذ مآربهم، وتحقيق أهدافهم، كما تفعل أمريكا اليوم. والحال لا يحتاج إلى شرح. كما أجاد أساطين الشيعة الدور في التلويح لشيعتهم بأن الخطر كل الخطر يأتي من ناحية العرب عموماً وأهل السنة خصوصاً. ولغتهم الخاصة غنية بالمصطلحات التي تعبر عن مقاصدهم مثل: نواصب، وهابيين، إرهابيين، تكفيريين، أُمويين...إلخ. هذا إن لم يذكروا أهل السنة باسمهم صراحة. بينما فشل أهل السنة – في العراق خصوصاً - فشلاً تاريخياً ذريعاً في تجلية الخصم أو العدو الحقيقي الذي يهدد وجودهم، ويريد ابتلاعهم وتدمير هويتهم الدينية والقومية، بل والوطنية ! ألا وهو الشعوبيون ، والمستعجمون ، وإيران وذيولها . أو – باختصار – أصحاب التشيع الفارسي الذين يمثلهم عموم الشيعة في عراقنا إلا من رحم ربك. وهذا الفشل الغبي هو الذي خدر أهل السنة خاصتهم وعامتهم، وساعد في تشتيت صفهم، وترسيخ تفككه، وضعف تماسكه؛ لأن قادتهم من الدعاة والمشايخ والعلماء والمفكرين والسياسيين – إلا أقل القليل - دس رأسه في الرمل عن رؤية الخصم الحقيقي، ونصيحة أهله في تشخيصه، وتحذيرهم منه. وظلوا يخادعون أنفسهم بالعبارات التقريبية الزائفة حتى وقعت الواقعة، فلم يبق بيت من بيوت أهل السنة إلا ودخلته الفتنة على يد عصابات الخيانة والغدر الشعوبي: بدءاً باستقدام الكافر المحتل، ومروراً بخدمته، وتقديم جميع أنواع العون والمساعدة له. وبعد (خراب البصرة) - كما يقولون عندنا في العراق – صاروا يتحدثون على استحياء ابنة شعيب إلى (الإخوة) الأعداء. فمن يتحمل المسؤولية؟!! وإذا كان الله جل وعلا قد حذر المؤمنين حتى من الزوجة والولد ووصفهم بالعدو في حالات معينة فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) (التغابن:14) فكيف بمن يغطي الحقيقة الصارخة ولا يحذر أبناء جلدته من العدو الحقيقي الذي انتشر كالسرطان في جميع مفاصل المجتمع؟!
السياسة اللادينية تسلك أسلوب ترهيب الجماهير من العدو المحدد، والسياسة الدينية أو الشرعية تسلك السبيل نفسه. الفرق بينهما في المصداقية والهدف النبيل، وليس في المبدأ نفسه. وبهذا يتبين أن أصحابنا لم يسلكوا لا سبيل الدين، ولا سبيل السياسة. وهذا هو المؤشر على عامة الحركات الدينية في زماننا التي دخلت معترك السياسة. إن أساليبها قديمة، أو لا يحسنون تنزيلها على مواردها، إلا من رحم.
إن العدو الأول لنا في العراق هو الشعوبية وأهلها من عموم الشيعة الموالين لإيران، والسائرين في ركب ذيولها عندنا من أمثال السيستاني وآل الخوئي وآل الحكيم وآل الصدر ومن لف لفهم، وسار في ركبهم. هؤلاء هم أعداؤنا، لا يختلف أحدهم عن الآخر إلا بالدور المكلف به في خدمة المسرحية الجامعة. فالمسرحية واحدة، والهدف واحد وإن تنوعت - أو توزعت - الأدوار بين أعضاء الجوقة. وإذا كنا نعذر أحداً من خارج العراق – لسبب أو آخر - في عدم الاهتداء إلى هذا التشخيص، فلا يمكن الاعتذار لأحد من أهل العراق إذا أخطأ فيه، خصوصاً بعد كارثة الاحتلال، وبروز العمالة الشيعية سافرة فيه إلى البلعوم. يقول د. ماجد العرسان: (الغرب هو التحدي الأكبر لدار الإسلام. وهو تحد عنيد مستمر كلما هلك جيل من الغرب خلَفه جيل آخر ذوي صبر على متطلبات المواجهة وتكاليفها... أما الخطر الشرقي الذي كانت تمثله فارس فقد انهار بعد نطحة أو نطحتين: مواجهة في القادسية وأخرى في نهاوند ثم لا فارس بعد، وإنما تحولت إلى منعطف جديد استمر في أيامنا الحاضرة)1. وأنا وإن كنت لا أهون من شأن الخطر الغربي، لكنني لا أرى التهوين من شأن الخطر الشرقي يقوم على أسس علمية: لا واقعية ولا تاريخية. وأصحاب هذا التنظير إنما يحملهم عليه عدم اكتوائهم بنار المؤامرات الفارسية المستمرة على العراق وأهله. وذلك لبعدهم عنها، ما يؤدي إلى سهولة انخداعهم بمعسول كلام الفرس ودعاواهم الكاذبة. وهذا هو الذي يجعلهم في غير ما حاجة إلى قراءة تاريخ العراق القديم والحديث، وإذا قرأوه لا يركزون على المفاصل الحرجة الخاصة به؛ لأنهم ليسوا من أهله. وهذا شيء طبيعي، ولو
كنتُ أنا من غير العراقيين لربما حذوت في ذلك حذوهم. فأنا لا أنتقد الشخص نفسه، وإنما أنتقد تقريره، وأعتذر له. كما أقول له ولغيره: إن التاريخ يشهد أن جميع الحضارات التي قامت في العراق منذ فجر التاريخ وإلى يوم الأربعاء الأسود (9/4/2003) كانت نهايتها على يد الفرس: إما مباشرة أو بالواسطة. أما الواقع فما عاد في حاجة إلى بيان! وأما (النطحة والنطحتان) الواردة في الحديث الشريف فلا تشير إلى أكثر من زوال دولة الفرس الرسمي، على غير ما كان عليه الأمر بالنسبة إلى الروم. وقد تحولت فارس بعدها إلى أكبر مستودع وأخطر حاضنة للنفاق والحركات النفاقية على وجه الأرض. وقد قامت بأخطر الأدوار في التاريخ في الكيد لدولة العرب والمسلمين. وكثيراً ما تحالف الفرس مع الصليبيين لمحاربة دولة الإسلام،
وهم الذين تآمروا معهم على عهد الصفويين فأوقفوا الفتح الإسلامي داخل أوربا.
وجود العدو ضرورة لتوحيد الجمهور: وأخيراً أقول لكل العاملين من أهل السنة وخصوصاً السياسيين: إن توحيد الجمهور وتجميعه لا يمكن أن يتم من دون أن تثار لديه غريزة الحياة وحب البقاء من خلال شعوره بخطر يتهدده من قبل عدو يتربص به. ومن أوضح الأدلة على ذلك موقف أهل السنة من الدستور وزحفهم بالملايين للتصويت ضده، يوم شعروا بالخطر الداهم الذي يستهدف وجودهم، ويغتال هويتهم. وكذلك موقفهم من الانتخابات التي تلته، واندفاعهم لها دفعاً للخطر الداهم. فالحب وحده والتسامح الأبله بضاعة الضعفاء الحالمين، وديننا دين القوة والواقع. وليس من خطر أكبر من خطر الشعوبية، التاريخ والواقع يثبت ذلك. ولسنا في حاجة ولن نرضى بمن لم يقرأ تاريخنا، ولا يعيش واقعنا.
فنصيحتي لكم إذا أردتم النجاح في الوصول إلى أهدافكم أن تجمِّعوا الناس في العراق حول هذه القضية الكبرى. وإلا فإن أخوف ما أخافه - إذا خرج المحتل - أن ترجع إليكم لوثتكم الترضوية القديمة، وعندها سينفض الناس عنكم كل إلى (حال سبيله)؛ فما عاد من خطر يجمعهم. في الوقت الذي يكون فيه جمهور الشيعة متحفزين تمام التحفز للإجهاز على البقية الباقية من جمهوركم. (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ*وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ*وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ) (النجم:59-61).
كل عظماء العراق حاربوا الفرس: كما أعظكم بواحدة، وأذكِّركم بحقيقة عظيمة هي أن كل من برز من قادة العراق ورجاله في كل أدوار التاريخ إنما انبنت عظمته وشهرته على موقفه من المد الفارسي. واذكروا إن شئتم أوتوحيكال وسرجون وحمورابي ونبوخذ نصر وآشور بانيبال وسميراميس، والنعمان والمثنى وزياد والحجاج والمنصور والرشيد، وصلاح الدين. حتى الإمام أحمد فإنه لم يكن مجرد عالم قاده التطلع العلمي والواجب الديني المجرد إلى ما قاده إليه. إنما كان صاحب قضية لا تختلف عن قضيتنا اليوم، تصدى من خلالها للمد الشعوبي متمثلاً بهجمته على العروبة، والقرآن، والحديث النبوي، والعقيدة الإسلامية؛ فدافع عن فضل العرب، ونافح ضد الزمرة الشعوبية والبطانة الفارسية متمثلة بابن دؤاد وزمرته القائلين بخلق القرآن، ووقف ضد محاولات الزنادقة العجم واختلاقهم للأحاديث الباطلة ونشرها بين الناس ودسها في كتب الحديث. وكان في ذلك كأنه الشخص الذي تجمعت فيه أصالة العراقيين، وتاريخ بني شيبان فظهر – وما كان للعراق إلا أن يظهر فيه مثله - ليمثل كرم الأصالة، وعنفوان التاريخ. وقد كان صدام حسين قارئاً جيداً للتاريخ حين ابتدأ ولايته بالتصدي للهجمة الفارسية السوداء. ولولا بعض العوارض ومنها ما ارتكبه من أخطاء بعد ذلك، وما هو معلوم من سيرته لكان من أعظم القادة في تاريخ العراق. على أنني أقول: إن الشوط ما زال بعيداً ليقول التاريخ فيه قولته، ويحكم عليه بحكمه، ومن عاش فينا سيسمع عمن تصدى للريح الشرقية الصفراء وأذل خشم نافخ كيرها (لع)، وجرعه كأس السم، وحرر المحمرة والأحواز غير ما يسمعه اليوم. وهكذا فكل من أراد أن يقود العراق لا يمكن أن يقوده ما لم يتقدم بموقف كبير يتصدى به لإيران وذيولها من الشعوبيين والشيعة المتفرسين. والمستقبل بيننا حكم، إن لم ينفع المنطق والشرع والتاريخ. (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (غافر:44).
7. العلاج بالصدمة
مما تعلمناه على عهد الدراسة الطبية أن بعض الأمراض النفسية لا يعالجها شيء مثل تعريض المريض إلى صدمة علاجية، أو رجة كهربائية. فالمريض الذي يعاني من رهاب بخصوص بعض الحشرات كالصراصر مثلاً يعالج بإدخاله إلى موضع يعج بالصراصر ويقفل عليه الباب وهو معها، وبعد أن يصرخ ويصرخ تتفرغ شحنته العُقدوية ويشفى مما به من مرض. والعلاج بالكهرباء معروف لكل الناس، سواء بالنسبة إلى الأمراض النفسية أو الجسدية، فالسكتة القلبية مثلاً لا ينقذ المصاب منها كما ينقذ بالرجة الكهربائية. وأعتقد أننا نحتاج لمثل هذا العلاج مع الشيعة، ومع السنة أيضاً. أن نصدمهم بالحقيقة المرة، ونصكهم بها في آذانهم، ودعك من صراخهم؛ فقد وصل المرض إلى حد الغيبوبة.
8. الهجوم
"الهجوم خير وسيلة للدفاع" حكمة معروفة في أوساط الناس، وإن كانت في الأصل قاعدة من قواعد العلم العسكري. كما أنه من المعروف عسكرياً أن الدفاع لا يحقق النصر، إنما النصر يكمن في التعرض للعدو والهجوم عليه. وغاية الدفاع هو رد الخصم دون دحره، ما لم يتبع ذلك بمطاردته، أي الهجوم عليه. وكذلك الشأن في المعارك العقائدية والثقافية. المهاجم يشغل خصمه بالدفاع عن نفسه، وبذل الجهد في تبرير مواطن الضعف التي وجهت إليها سهام النقد، ومحاولة سد الثغرات التي تنفذ منها تلك السهام. وكثيراً ما يركن إلى الموادعة والسكوت طمعاً في سكوت المقابل، واستجداءً لعطفه وموادعته. وهكذا يبدأ الانهيار الثقافي، وتغزى الأمم في ثقافاتها ومرتكزاتها الفكرية والعقيدية، تمهيداً لغزوها عسكرياً وهزيمتها ودحرها في ميدان القتال. وهذا هو شاهد حالنا اليوم في العراق.
والناظر في دعوات الأنبياء عليهم السلام، وكل الدعوات التغييرية الأخرى – الإصلاحية منها والإفسادية – يجد أنها لم تقف من مجتمعها أبداً موقف الدفاع، وإنما بدأت بتحديد مواطن النقد أو الخلل، ثم راحت تهاجمها علناً وعلى رؤوس الملأ. والقرآن الكريم وسيرة النبي وغيره من الأنبياء عليهم السلام تشهد بوضوح على ذلك. وأكتفي بموضع واحد من القرآن هو قوله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيم لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة:4).وتأمل ما في هذا الأسلوب من نتائج تغييرية جماعية بشرط أن تأخذ استحقاقها الزمني، وتتوفر لها الأرضية الصالحة للتحرك، وذلك ما لم يحصل لسيدنا إبراهيم : الإعلان القوي بالبراءة وإظهار العداوة وإبداء البغضاء والكراهة يؤدي إلى هيجان المجتمع، وزلزلته فتنتشر الدعوة وتصل إلى كل زاوية فيه، وتثور المناقشات والمجادلات، ويحصل تبادل في الأفكار والآراء. كل ذلك بسرعة لا تقارن بها سرعة حدوث هذه التفاعلات في حالة الأساليب الترضوية، فيكثر المؤمنون من طلاب الحقيقة، وتهتز قناعات الآخرين. يحدث هذا على مستوى المجتمع كله، وليس على مستوى أفراد معدودين. وعندها يمكن استغلال النتائج الحاصلة واستثمارها لإكمال الشوط إلى نهايته كما فعل الرسول .
من هذه النقطة، من البراءة والعداوة تبدأ الخطوات المباركة نحو التغيير الجماعي كما يشير إلى ذلك قوله تعالى في سياق الآيات السابقة: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الممتحنة:7) لا كما هو ديدن الترضويين الذين يتطيرون من كل ما يمكن أن يثير إزعاج الآخر، أو يعكر صفو مزاجه الرائق، وذوقه الرفيع.
أما المدافع فيمثل الكفة الأضعف في المعادلة، ولولا ضعفه لما غزي في عقر داره؛ فإنما يغزى الضعاف. ولولا ضعفه لكان هو الذي يبدأ ويغزو ويهاجم.
حين رجعت من الحلة إلى بلدتي (المحمودية) أواخر عام 1997 كانت الأسئلة تنهال عليّ من قبل الشباب السني: هل صحيح أن الرسول أخذ البيعة لعلي عند غدير خم؟ ما معنى آية الولاية؟ وهل أن علياً تصدق في صلاته بخاتم فنزلت الآية بسبب ذلك؟ وما علاقتها بالإمامة؟ ما تقول في معركة الجمل؟ ولماذا (خرجت) عائشة على علي؟ هل صحيح أن عمر قال عن النبي : إنه يهجر؟ وأن ذلك في صحيح البخاري؟ ما دليل الأوقات الخمسة في الصلاة والله يقول: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) (الإسراء:78)؟ وكانوا يأتونني بأحاديث عديدة مشكلة في البخاري ومسلم يحتج بها الشيعة عليهم فلا يستطيعون الإجابة الشافية عنها. وغيرها وغيرها من الأسئلة والإشكالات التي صارت تشغل عقول أبناء السنة، ويتلفتون حولهم، ويذهبون إلى المساجد فلا يسمعون ما يُروي غليلهم ولا يشفي عليلهم، سوى كلمات (التقريب) وعبارات من مثل: لا فرق بين الشيعة والسنة، الدين واحد والرب واحد إلخ... ونحن نحب أهل البيت، وأهل البيت كذا.. وكذا. وما شابه ذلك من العبارات الانهزامية التي جرأت على حمانا صعاليك الأرض، وشذاذ الآفاق.
ومن خلال ذلك توصلت - بما يشبه القناعة – إلى أن الحال إذا استمرت على ما هي عليه فإن العراق سيتحول إلى شيعة خلال خمسين سنة! إن التقهقر إلى الدفاع أول الخطوات في طريق الهزيمة.
وكنت أوجه السائل - بعد أن أجيبه على سؤاله وأوضح له حقيقة الأمر – إلى أن يهاجم لا أن يدافع، وأن يورد هو الإشكالات على الآخر ولا يكتفي بتلقيها منه. وأزوده بمجموعة منها. وكنت أقول للسائل وغيره: بدلاً من أن يشغلوكم بعشرين حديثاً مشكلة في البخاري أشغلوهم بألوف من الروايات الساقطة في كتاب الكليني. وبدلَ أن يشغلوكم بعدة آيات مشكلة من القرآن قولوا لهم: (إن هذه الآيات كلها متشابهة، فأتونا بآية واحدة محكمة شاهداً على أعظم أصولكم ((الإمامة))فما دون؛ ونحن نسلم لكم بما تقولون). خذوا زمام المبادرة واهجموا ولا تدافعوا. قولوا لهم: (إن أصولكم باطلة لا أساس لها من محكم القرآن، وإن رواياتكم موضوعة وصلتكم عن طريق الزنادقة والكذابين). لا تشغلوا أنفسكم بذكر حبكم لأهل البيت فإن هذا لن ينفع معهم، وألقوا في أحضانهم بفضيحة كراهة الصحابة وسبهم والطعن بأشرف النساء وأطهرهن أمهات المؤمنين. وبدل أن تدندنوا حول كونكم من محبي أهل البيت وأتباعهم قولوا لهم: (أنتم مخالفون لأهل البيت ولا علاقة لكم بهم ما دمتم تخالفون منهجهم ودينهم. إن أهل البيت بريئون ممن يغلو فيهم ويرفعهم إلى مصاف الأنبياء أو مرتبة الإله. إن هذه العقائد التي أنتم عليها فارسية مجوسية لا ينفع معها التستر ولا الترقيع). هاجموا إيران وكل من انتسب إليها من الشعوبيين والمستعجمين. دعوهم يشعرون بالنقص تجاه عقائدهم وعمالتهم وحبهم لإيران، وسترون النتيجة!
وتلقف الصادقون المخلصون الفكرة وساروا بها، فما مرت سنتان حتى انعكس الأمر وتغيرت الحال إلى الضد تماماً، إلى درجة أن أحدنا صار لا يكاد يجد شيعياً يقبل الوقوف معه للنقاش! بل إنه يهرب عند أول إشارة لتحول الحديث إلى الموضوعات الخلافية، ويطلب التوقف أو الانصراف متحججاً بأن مراجعه أمروه بعدم الخوض في مثل هذه المسائل. فكنت أضحك وأقول: لقد قطعنا شوطاً كبيراً باتجاه الهدف. هذا هو الطريق، فيا ليت قومي يعلمون!.
يقول أحد علماء الاختصاص الغربيين وهو جي. إي. براون: أكبر غلطة ارتكبتها الدعاية الألمانية (في الحرب العالمية الأولى) أنها كانت دفاعية باستمرار، باذلةً جهودها في التأكيد على أن الدعاية الموجهة من قبل الحلفاء كانت غير صحيحة وغير منصفة.وفي هذا انتهاك لواحدة من أُولى قواعد الدعاية وهي أن رسالة صاحب الدعاية ينبغي أن تكون إيجابية باستمرار. إن محاولة تصحيح أخبار الدعاية ((غير المنصفة))تؤدي إلى شيء واحد وهو إحياء العبارات التي استعملتها الدعاية المعادية في أذهان من تلقوها، ونشرها بين الذين لم يكونوا ليسمعوها لولا تلك الطريقة1.
لقد اعتمد الشيعة على مبدأ الهجوم والدعاية في نشر أباطيلهم . أما نحن فغاية ما فعلناه هو الدفاع والدفاع الضعيف وباستمرار خصوصاً في منابرنا العلنية التي هي المصدر الأهم في تثقيف المجتمع وتعرفه على الحقيقة2.
9. النفرة
صحيح أن هذه الأساليب تتسبب في نفرة المجتمع في بداية الأمر ، وإثارة المشاكل
كما حصل لرسول الله . ولكن ذلك ليس دليلاً على عدم جدواها. بل العكس هو الصحيح. وليس العلاج بالترك والنكوص. ومن قال بذلك فإنه لا يعرف مراحل العلاج أو محطات السير.
لقد واجه الرسول هذه المشكلة مشكلة نفرة الناس عنه، لكنه لم يسعَ إلى تجنبها
بكل وسيلة، حتى ولو كانت هي المجاملة أو التخلي عن الصدع بالحق والجهر بإنكار ما عليه النافرون من باطل طمعاً في تقريبهم كما هو حالنا اليوم. بل واجههم بما يزيدهم نفوراً حين شبههم بالحمير! فقال تعالى: (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ*كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) (المدثر:49-51). وحمّل نفوسهم المريضة بالكبر، وعدم الخوف من الآخرة مسؤولية الإعراض عن الحق فقال: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً*كَلا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ) (المدثر:52،53). ولعل في صيغة (استفعل) في كلمة (مستنفرة) ما يشير إلى أن النفرة عن الحق مركوزة في نفوسهم؛ فهي مطلوبهم ومبتغاهم، فالأمر كما قال سبحانه عن ثمود: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (فصلت:17) فجاء التعبير في كلمة (استحبوا)بصيغة (استفعل)، أي هم أرادوا واختاروا وطلبوا العمى وحملوا أنفسهم عليه!
ثم بيَّن من موقع الفوقية والعلو والعزة أن من شاء الهداية فليفعل، ومن لم يشأ فالأمر متروك له. على أن الهداية شيء عزيز لا يوفق الله إليه إلا من يستحقه. وقد لا يكون هؤلاء مستحقين لذلك، فقال جل شأنه: (كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ* فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ*وَمَا يَذْكُرُونَ
إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) (المدثر:54-56).
فمن قال: إن نفرة النافرين حجة على صحة الدعوة، ومقياس لخطئها من صوابها، فليس ممن يفقه سنة التغيير، ولا ممن قرأوا التاريخ جيداً، أو وقف يوماً يتمعن الآيات السابقة، وما في معناها من كتاب الله.
بل أستطيع أن أقول (وهذا ما ذكرته في كتابي السالف الذكر): إن التغيير الجماعي يبدأ من هنا؟! من الإثارة والنفرة وتحريك السواكن الجامدة والعقول الخامدة. وإنه ما من دعوة من الدعوات نجحت إلا وبدأت هذه البداية.
نعم!سينفر المجتمع أولاً.وهذا لا ينبغي أن يجرك إلى أن تغير خطتك أو تنحرف عن خطك. بل استمر في سيرك ودعوتك وأعلِ من نبرتك وهذا سيؤدي إلى.. نفور أكثر! فاستمر على ما أنت عليه وسترى!
سيأتي يوم فيه يصمتون. عندها أعلم أنهم أصيبوا بالذهول، وأن الصدمة قد بدأ مفعولها وأنهم بعد حين تتحرك خلايا أدمغتهم الجامدة المتحجرة وتتشكل من جديد لتبدأ بالانتباه بشيء من الجدية إلى ما تدعو إليه، والتفكر فيه. سيقولون في أنفسهم: لولا أن ما يدعو إليه هذا الداعي حق لما تمسك به هذا التمسك، فهل نحن حقا على باطل؟! وهذا أول علامات الوهن والانهيار في جدار الباطل. إنه الصمت والتأمل.
وهنا يتحول أهل الباطل من حالة الهجوم وإلقاء الشبهات والضجيج والمطالبة بعقد حلقات الجدل والنقاش إلى حالة أخرى تتمثل بالهروب وعدم المواجهة، والاكتفاء بحالة الدفاع عند الاضطرار. فاعلم أنك قد قطعت شوطا كبيرا في سيرك بالاتجاه الصحيح.
لقد انتهت مرحلة وبدأت مرحلة أخرى. انتهت مرحلة الهجوم، وبدأت مرحلة الدفاع. عليك هنا أن تستثمر الحالة وتحول دفاعك إلى هجوم لتقضي على آخر سواتر المقاومة لخصم قد انهزم نفسيا وفقد الحماس في الدعوة إلى أفكاره المنحرفة التي بدأت تتزعزع ثقته بها حتى مع أبنائه وعائلته. أي أن الجيل القادم سيكون ضعيف التعلق بباطله ويكون - هو والجيل الذي بعده - من حصة أهل الحق إن شاء الله.
إن الجيل الأول عموماً لا بد أن نقبل خسارته ونفرته -هذا على أسوأ الاحتمالات - ثمناً لربح الأجيال القادمة بشرط أنْ تتضافر الجهود للدعوة بهذا الأسلوب وأن لا يقف الترضويون حاجزاً أمامها يصدون ويوعدون مع أملنا بالمخلصين منهم أن يلتحقوا بالركب السائر في طريق الأنبياء.
على أن هذا لا يلزم منه أن لا تظل عصابة - لا سيما الرؤوس والمنتفعون والمغرضون - تثير الفتن وتحاول الكيد بشتى الوسائل والأساليب.
وهكذا فعل رسول الله . وبغض النظر عن تفاصيل المراحل التي مرت بها دعوته - إذ لكل مرحلة ظرفها الذي يصنعها مما يؤدي إلى اختلاف أو تشابه المراحل بين الدعوات وقد تختلف في تفاصيلها تبعا لتشابه الظروف وتسلسلها – فإنه صدع بالحق وجهر بالدعوة وسفه آراء المجتمع وضلل آباءهم وشتم كبراءهم وفضحهم وفضح أباطيلهم.
ولولا هذه الشدة وهذا الهجوم العنيف لما رضخ المشركون وجاءوا إليه صاغرين يتوسلون - للوصول إليه - بالملك والمال والنساء، مقابل شيء واحد هو أن يدعهم وشأنهم. بل كانوا يطلبون إليه أحيانا أن يسكت مجرد سكوت عن تضليل آبائهم وتسفيه
آرائهم، ولكنه يصر - في مقابل ذلك كله - على ما هو عليه! فماذا كانت النتيجة؟
تقربوا إليه أكثر فعرضوا عليه حلاً وسطاً أن يعبدوا إلهه وحده فترة ويعبد آلهتهم مثلها. لكنه يجيبهم بصراحة وغلظة ويرمي بها في وجوههم:قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ*وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ *وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ *وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ *لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ.
هذا هو المنهج. فمن وجد في نفسه القوة وعلو الهمة، فليمض على نوره وهداه، وإلا فليدع الخلق وشأنهم.
10. لا بد من المشكلة
قال لي أحد (ركاب المنابر) في مدينتنا منتقداً ومعنفاً: أنتم تعملون مشاكل، وتفقدون منابركم. لقد مر بي في مسجدي عشر سنين لم أعمل مشكلة. فأجبته: لأن أبقى في مسجد سنتين أقول فيهما (كلمتي) وأمضي، خير لي من أن أظل أدور في مكاني عشرين سنة وكلمتي في حلقومي، كلما أردت قولها غصصت بها حذر المشاكل. أما إنك لو بقيت مائة سنة ما قلت شيئاً، ولا فعلت. ما الفائدة من صعودكم المنابر، إذا كان اليوم الذي تغادرونها فيه كأنه هو اليوم نفسه الذي طرقتم فيه خشبتها أول مرة، لم يتغير من حالكم ولا حال الناس شيء؟!!
والحقيقة أن مكلمي هذا كثيراً ما حصلت له مشاكل، ومع المصلين، لا غيرهم! ولكن غالبها شخصية، وليست من أجل الدين أو (القضية).
ومن فوق منبر جامع (أم القرى) قال "الصميدعي" في خطبة جمعة في ربيع سنة (2006) متحدثاً عن المجازر التي يتعرض لها أهل السنة: "سنطالب الحكومة بوقف نزيف الدم، وإلا.. (وإلا ماذا أيها السميذع؟) وإلا سنرفع شكوى إلى المنظمات العالمية من أجل التدخل لعلاج الكارثة". وعلى طريقة (شر البلية ما يضحك) أقول: يذكرني هذا بطرفة تروى عن جحا. قيل: إنه ذهب يوماً إلى قرية بعيدة لا يعرفه أحد من أهلها، فسرق حذاؤه. فما كان منه إلا أن قال مهدداً: ائتوني به، وإلا فعلت بكم ما فعل أبي من قبل. ونظر القوم إلى عمامته وهيئته فهابوه، وحسبوه أميراً من الأمراء. فأجهدوا أنفسهم حتى وجدوا حذاءه، وجاءوه به. ولما لبسه وتحرك لينصرف قالوا له: هلا أخبرتنا عن أبيك ماذا فعل من قبل؟ وبكل بساطة أجابهم: لقد سرق حذاؤه، ولما لم يجده له أحد ذهب إلى بيته حافياً!
انظر إلى هذا. ثم انظر إلى قوله تعالى: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ) (الأنعام:34).
قلت في ضوء هذه الآية وما في معناها من قبل: كل دعوة نجحت على مر التاريخ شكلت في زمانها مشكلة اجتماعية كبيرة في مجتمعها في أول مرحلة من مراحلها!
خذ الثورة العلمية الأوربية مثلاً: كم عانى العلماء من الاضطهاد والتشريد والقتل والتحريق على يد الكنيسة! لو لم يشكل أولئك العلماء الأفذاذ المناضلون مشكلة كبيرة هددت الوجود الباطل لدى (رجال الدين) هل كان يحدث هذا؟ ولو لم تمر تلك الدعوة أو الثورة بهذه المرحلة أو المشكلة أكان بالإمكان أن يكتب لها النجاح؟
تصور! لو أن كل عالم أسر بما عنده لمن يثق به فقط ، واقتصر بدعوته على مجالسه الخاصة. أما في العلن والمحافل والمنتديات فيجري تمجيد الخرافة على حساب العقل، ومجاملة الجهل على حساب العلم، ومداهنة الكنيسة تجنباً للمشاكل – هل كان قد حصل التغيير المطلوب؟! بل ستذهب دعواتهم هواءً في شبك، وصيحة في واد.
والأحناف الموحدون كانوا موجودين في المجتمع العربي. ولقد كانوا يتمنون الإصلاح ويقومون ببعض ما عليهم من بيان للتوحيد وإنكار للشرك ولكن.. بـ(هدوء) ودون إثارة، وبالقدر الذي لا يسبب (مشكلة). فهل استطاعوا إصلاح المجتمع وإحداث التغيير المطلوب؟ كلا.. هل تعلم لماذا؟ لأن الطبخة لم تنضج على نار (المشاكل) التي لا بد منها ليكون الطعام سائغ المذاق. لقد كانوا يدركون حجم ما يسببه لهم التغيير والإصلاح من مشاكل ما كان عندهم الاس
الأساليب والمبادئ العامة
1. تبني (القضية)
وجدت أغلب الناس – بما فيهم كثير من المفكرين والمنظرين - ينظر إلى المسائل التي تشغله: دنيوية كانت أم دينية نظرة جزئية تفكيكية. بمعنى أنه ينشغل بمسألة ما فيجعلها محط نظره ومحور اهتمامه وحركته ليهمل بقية المسائل. أو يعالج كل مسألة على حدة، دون أن يسلكها بخيط واحد، ويرجع بعضها إلى بعض. وهكذا يفعل كل فريق. وفي النهاية ينقسم المسلمون في البلد الواحد أقساماً غير متجانسة، تتنافر فيما بينها وتختلف تبعاً لاختلاف المسائل التي تبناها كل فريق على حدة دون اتفاق أوتنسيق. وهذا ما نهى الله عنه وذمه بقوله: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (المؤمنون:35). إن هذا يقطع المقتسمين أنفسهم ويحيلهم شيعاً وأحزاباً متنافرة كما قال تعالى: (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) (المائدة:14). فأخذبعض الدين ونسيان بعضه يؤدي إلى هذه النتيجة المأساوية.
وللخروج من هذا المأزق لا بد من اللجوء إلى نظرية (القضية). فبها وحدها نتمكن من حل جميع الإشكالات، ونعطي جميع المسائل الممكنة ما يناسبها من اهتمام.
إن نظرية (القضية) تعلمنا – نحن كإسلاميين - أن للدعوة محوراً هو المشكلة، أو
المسألة الكبرى في الواقع المعين تدور حوله (القضية) استناداً إلى قاعدة التوحيد.
إن محورية الدعوة لا تعني أبدا إهمال المسائل الأخرى غير المحورية، وهي تقترب أو تبتعد عن المركز الذي تستقر فيه المسألة الكبرى وتتحرك لتكون هي محور الاهتمام أو (القضية). بل الأمر على العكس تماماً. فإن وضع اليد على المحور، وتشخيص (القضية) يعطي لبقية المسائل أهميتها وحيويتها كلاً بحسبها، ويحركها ليجعلها تدور في فلكها الخاص بها وهي تنشدُّ إلى المحور بدل أن تظل جامدة ميتة، أو مغلفة لا حراك فيها.
إن (القضية) هي النظام أو السلك الذي يشد حبات العقد ليصنع منها تركيباً جميلاً مترابطاً. وبفقدان ذلك النظام أو انقطاع السلك تنفرط الحبات أو الخرز فلا يبقى هناك عقد. إن لكل دعوة قضية تنبع من واقعها تشد المسائل المطروحة كما يشد النظام حبات العقد فإذا انفقدت (القضية) انفرط عقد هذه المسائل وفقدت حيويتها وصارت بلا هدف يمكن تحقيقه من ورائها.
وبهذا يتبخر الاعتراض القائل بأن الدعوة لا يصح أن تحصر في قضية مواجهة التشيع أو المشروع الإيراني، وتهمل بقية القضايا. حيث قد أصبح واضحاً أن تبني هذه القضية لا يلغي أياً من القضايا المطلوبة، بل يمنحها الحيوية والحياة، ويجعلها تتحرك وتدور حول محور يمور بالفاعلية والحركة والنشاط :
فمن جعل التوحيد وتصحيح العقيدة غايته نقول له: إن هذا المطلب أول خطوة في طريق (القضية).
ومن جعل التقوى والتزكية القلبية شاغله نقول له: إن هذا هو لب التوحيد وعماد العقيدة.
ومن جعل العبادة هدفه ووجهته نقول له: إن (قضيتنا) لا يصلح لحملها إلا جيل عابد.
ومن جعل الجهاد طريقه ووسيلته قلنا له: لا (قضية) بلا جهاد، ولا جهاد بلا (قضية). وجهادنا أعظم الجهاد في الواقع الذي نعيشه لأنه يجاهد المنكر الأكبر والأصعب فيه.
ومن أراد حشد الناس وتأليفهم، وتنظيمهم في جماعة معينة، قلنا له: إن الحشد والجمع لا بد أن يكون من أجل (قضية)؛ فالقضية الحقيقية أعظم وسيلة لتحقيق هذه الغاية. فتبني هذه القضية تحل مشاكل العراق دينياً واجتماعيا وسياسياً.
ثم.. إن (قضيتنا) لا تنجح دون وعي بالسياسة والواقع وما يدور في العالم.
وتحتاج إلى معرفة عميقة بالنفس البشرية وصيغ التعامل معها والسنن الكونية في التغيير.
والى معرفة بالكتاب والسنة والسيرة والتاريخ والجغرافية كذلك. واللغة والعقائد والفرق.
وإلى التعرف على الدسائس والمؤامرات وعلاقات الفرس باليهودية والصليبية.
ولا يحملها إلا وطني صادق وعروبي غيور.
... وهكذا ما من مسألة ولا علم مهم أو ضروري إلا وتجد القضية في حاجة إليه،وتعطيه من الاهتمام ما يناسبه. فرق جوهري هو أن هذه المسائل والعلوم تكون حية متوهجة متحركة حين تكون في خدمة (القضية)، وميتة خامدة جامدة حين تنعزل منفردة على قارعة الطريق.
ولعل سائلاً يسأل: ما هي قضيتنا نحن أهل العراق، وبقية المناطق أو الأقطار المشابهة؟ فأقول: إننا في العراق نواجه – ومنذ فجر التاريخ - خطراً هو أكبر الأخطار بل هو مجمع الشر وأم الخبائث من الشرك والنفاق واستباحة الدماء والأموال والأعراض والطائفية والفرقة والتآمر والكيد والدس والاغتيال الفكري والجسدي والولاء للأجنبي والطعن في الكتاب والسنة والتاريخ والرموز…الخ. وقد استطاع أن يجند لصالحه الملايين.
هذا الخطر هو الشعوبية أو المجوسية المقنعة. إنه التشيع الفارسي أو الصفوي. إنه الغزو الشرقي قبل الغربي. فالوقوف بوجه هذا الخطر هو (قضيتنا) الأولى. وهيالقضية التي نستطيع توجيه كل الجهود نظريا وعملياً علماء وعامة قادة وجماهيرباتجاهها، وحشدها لحلها وعلاجها.
2. التكرار والطرق المستمر
قد يتغير الفرد بالحوار الشخصي، والأساليب العقلانية في دوائر النقاش، وتبادل الآراء في اللقاءات الخاصة، والاجتماعات المحدودة. ولكن المجتمع سيظل في عزلة عن هذا التغيير. ولا يتأثر به إلى الحد الذي يمكن اعتباره كبيراً وشاملاً، ما لم يحصل الصدع بالفكرة مع الطرق والتأكيد المستمر العلني بها، ويستغرق ذلك زمناً قد يطول جيلاً أو جيلين تبعاً لتوفر العوامل والظروف المطلوبة. على أن يكون قوياً مؤكداً وجازماً.
إن (العقل الجمعي) للمجتمع لا يتغير قط إلا بهذا الأسلوب، الوحيد الذي يمتلك الفاعلية على جعله يتأثر ويستجيب - بلا وعي، وشيئاً فشيئاً - لدواعي الفكرة، التي ستتغلغل فقراتها على مدى الزمن المطلوب، حتى يأتي يوم يكون فيه مهيأً للضربة الأخيرة فيسقط الجدار. وقد يكون سقوطه فجأة؛ لطول ما تفاعلت فيه عوامل التغيير. مثله كمثل بحيرة ماء تضرب أمواجها جداراً من طين، أو تحفر في ذراته شيئاً فشيئاً. إنه يتصدع - ولو ببطء - حتى يأتي يوم فينهار. وبهذا الأسلوب تمكن أهل الباطل من نشر باطلهم.
يقول د. علي الوردي: إن عيب البرهان المنطقي أنه لا يستطيع أن ينمي في النفس عقيدة. فالعقيدة بنت الإيحاء والتكرار. ولهذا السبب نجد وعاظنا ومفكرينا لا ينجحون في تبديل أخلاق الناس، أو تغيير عقائدهم إلا نادراً. فهم يحاولون دائماً أن يقنعوا الناس عن طريق الجدل، وإقامة الدليل، وما أشبه. هذا بينما الناس يسيرون في أمورهم الفكرية والاجتماعية على أساس ما انطبع في عقولهم الباطنة من أفكار وعادات وقيم. فهتلر لم يبعث في الأمة الألمانية تلك الحماسة، وذلك التعصب العجيب لآرائه بواسطة الإقناع المنطقي. إنما هو قد فعل ذلك بالإيحاء والتلقين والتكرار، وبواسطة الاحتفالات والاجتماعات والاستعراضات: حيث كانت الموسيقى تعزف، والأعوان تهتف، والرايات تخفق، والطيارات تملأ بهديرها الفضاء.
إن كلمةً تكرِّر قولها على نفسك مرة بعد مرة لقادرة أن تطبع في عقلك الباطن شيئاً من الإيمان بها قليلاً أو كثيراً. والإيمان يزلزل الجبال كما يقولون.
ينتقد بعض الكتّاب القرآن لأنه يكرر القصص وآيات الوعظ مرةً بعد مرة، ويذكر الله وآثاره في الكون في كل صفحة من صفحاته. وما درى هؤلاء المغفلون بأن هذا التكرار الذي ينتقدونه هو الذي طبع في نفوس العرب ذلك الإيمان العميق بالله، وجعلهم يحطمون إيوان كسرى وعرش قيصر في سنوات معدودة1.
3. الصدع بالحق
الإسلام دين جماعي. أي جاء لتغيير الجماعة قبل الفرد. والإسلام ليس علاقة قاصرة بين الفرد وربه، مجردة عن المجتمع ، أو بعيدة عنه. نعم هو علاقة بين العبد أو الفرد وربه، ولكن من خلال المجتمع.
إذن جاء الإسلام لتغيير المجتمع، وتصدى لمخاطبته ككل، وليس لخطاب فرد أو مجموعة من الأفراد. لهذا اتجه الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوته إلى المجتمع، ولم يقتصر بها على الأفراد. فكان يصعد على جبل الصفا ويصيح في جموع قريش، ويغشاهم في نواديهم وأسواقهم، ومواسمهم. وهكذا فعل أصحابه رضي الله عنهم. ولم تشغله دعوته الفردية عن هذه المهمة الاجتماعية. بل سخر الأولى لخدمة الثانية.
إن منهج الإسلام التغييري الجماعي يقوم أول ما يقوم على الإعلان الواضح بالدعوة، والصدع المستمر - وبلا انقطاع - بالحق، وإنكار ما عليه المجتمع من باطل جهراً، دون الاكتفاء بطرح الأفكار في الزوايا الضيقة.
وكان ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم تطبيقاً أميناً لما جاء في ذلك من توجيهات الوحي الإلهي النازل عليه. كما قال تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر:94). وقال: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) (الكافرون:1،2). وقال: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ) (الأنعام:34).
بهذا الأسلوب توصل نبينا إلى تغيير المجتمع. وبه تمكن أهل الباطل من نشر باطلهم. مشكلتنا أن عامة دعاة أهل السنة عندنا يجنحون عند خطاب الشيعة إلى الاقتصار على الحوارات الخاصة المعزولة. أما الجهر بالحق، والإعلان الصريح به من خلال الوسائل التي تصل بصوتهم إلى المجتمع كمنابر الجمعة والإذاعة والتلفاز، والصحف وغيرها من الوسائل، فيتحاشونه كما يتحاشى المجذوم، أو أشد! وهذا أحد العلل الكبرى في مسيرة الدعوة والتغيير.
إن السكوت وعدم الإعلان بالحقيقة الصريحة في وسط المجتمع خشية أن نفقد عدة أشخاص تربطنا معهم علاقة من أي نوع، أو جاءوا إلى المسجد القريب مثلاً يؤدي إلى أن يظل المجتمع سادراً في غيه، جاهلاً بحاله، مستمراً في ضلاله. لأنه لم يجد أو يسمع من يعرفه بالحق من الباطل.
إن مجاملة المجتمع علناً، والاقتصار ببيان الحق من الباطل على الأفراد في المجالس الخاصة والأماكن المغلقة، لا يمكن – في يوم من الأيام ولم يحصل في التاريخ - أن يؤدي إلى التغيير الاجتماعي المطلوب الذي هو مهمة الإسلام الأولى، وينبغي أن يكون مهمة كل مسلم داع إلى الإسلام بحق.
إن الصدع بالحق يحرك السواكن ويثير العقول ويدفع النفوس باتجاه النقاش والجدل والحوار، الذي ينبغي أن نستثمره ونجعله - كما أوصى ربنا - بالحسنى وحسب الضوابط الشرعية. ويؤدي كذلك – وبقوة - إلى مراجعة الأفكار وإثارة الحوارات الذاتية والمثنوية مم
يعطي للأفراد فرصة اكبر للوصول إلى الحقيقة مستقبلاً وتنشيط الدعوة الفردية كذلك.
لا بد إذن من التفريق بوضوح بين أسلوب الإعلان بالدعوة خطاباً للمجتمع، وبين الحوار الفردي في الزوايا الضيقة أو اللقاءات الخاصة أو عن طريق العلاقات الاجتماعية الفردية، الذي لن يؤدي – في أحسن أحوال – إلى أكثر من تغيير أفراد معدودين، مهما كثروا لن يحدثوا تأثيراً له وزنه في تغيير معادلة المجتمع المختلة، بالاتجاه الصحيح، نحو الهدف المطلوب.
4. التكامل
إن هذا التأثير - حتى يتم - يحتاج إلى تكامل دعوي يقترن فيه الصدع بالحق من قبل ما يكفي من الدعاة والكتاب والخطباء والمفكرين والمحاضرين، الذين يتقدمون الصفوف، بالحركة أمام الجمهور الواعي المساند، الحامل لـ(القضية)، بعد أن يكون قد أدرك أبعادها مسبقاً بواسطة أولئك المتقدمين. فالصدع بالحق لا بد أن يقترن بالحركة من قبل ذلك الجمهور نحو الآخر، متمثلة بالحوار الشخصي، وتقديم الوسائل البيانية من مثل الكتاب الهادف، والمطوية، والمنشور، والصحيفة والشريط المناسب: مسموعاً كان أم مرئياً، وغير ذلك من الوسائل. إن هذا كله ينشط التغيير الفردي ويكسب باستمرار مزيداً من الأنصار الحقيقيين، وليسوا أرقاما فارغة لا قيمة لها. وفي الوقت نفسه نكون قد قمنا بواجبنا تجاه المجتمع الذي نأمل أن يتغير باتجاه الهدف متى ما تكاملت فيه عناصر التغيير ضمن مدى معين من الزمن. فلا بد من مرور فترة زمنية يأخذ فيها التغيير مستحقه من النضج والتأثير.
ما أسهل أن يجلس أحدهم على أريكته الوثيرة، يعدد أخطاء العاملين، ويقول: ماذا فعل فلان؟ وماذا عمل فلان؟ إن (فشل) فلان وفلان – إن كان - بسببك أيها (الحكيم)!.. بسبب قعودك واختيارك الراحة على العمل المفروض أن تقوم به. إن أجزاء العمل الدعوي كأجزاء العربة: المحرك، والإطارات، والجسم، والمِقود وبقية الأجزاء. وما لم تكتمل وتتكامل هذه كلها مع بعضها، لن تتحرك السيارة مهما كانت الأجزاء الأخرى متقنة وصالحة للعمل. وقد قام فلان وفلان بأداء ما عليهم من نصيب، لكن العجلة لم تسر؛ لأن جزءاً مهماً كان مفقوداً، وفراغاً ظل شاغراً ينتظر وصولك الكريم.
5. فضح الباطل وبيانه بالتفصيل
من أسباب انتشار التشيع قلة المتصدين لفضحه وتعريته بتفاصيله التي هو عليها. على العكس! فلقد قعّد الدعاة في المنع من ذلك قواعد أشهرها: "بدل أن تلعن الظلام أشعل شمعة" ، و "بيان الحق كفيل بزوال الباطل" . وأسقطوا قاعدة الرفق على هذا الموضوع؛ فصار عندهم كل من تطرق إلى باطل الشيعة وخزعبلاتهم من المتشددين المتعنتين. وما دروا – أو دروا لا أدري – أن دين الله تعالى مبني على تقديم مبدأ إنكار الباطل على بيان الحق. وأن فضح الباطل جاء فيه مفصلاً، بينما بيان الحق جاء مجملاً. حتى إذا دخل المرء في الإسلام جاء دور بيان الحق له بالتفصيل. وهذا المبدأ مذكور من أول كلمة يطالب بها الإنسان للدخول في رحاب الإسلام : "لا إله إلا الله". والله تعالى يقول: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:256). ويقول: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55). ويقول: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (الأنفال:37). فبيان الباطل، وفضح أهله مقصود إلهي مستقل بذاته، وهو شرط لبيان الحق لا يتم إلا به.
6. التأكيد على وجود عدو محدد
الحب لا يكفي: صحيح أن الحب أساس الدين، ولكن هذا لا يكفي وحده لاستثارة النفوس وتفجير الطاقات، بل لا بد لذلك من تهييج عاطفة الخوف من جهة معينة محددة؛ فإن غريزة حب البقاء أقوى الغرائز كلها في إثارة قوى الإنسان وتوظيفها في الهدف المطلوب. ومن أول سورة نزلت من القرآن العظيم كانت هذه القضية حاضرة فيه: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى*عَبْداً إِذَا صَلَّى) (العلق:9،10). وما إن أهبط أبونا آدم إلى الأرض حتى أنزل الله معه عدوه وخصمه إبليس، كما أخبر سبحانه فقال: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (البقرة:36). وشد القرآن أنظار المؤمنين إلى أعدائهم من الكافرين والمنافقين، وحذرهم منهم، وأمرهم بمجاهدتهم.
وجود العدو سنة كونية:وهذا يعني أن وجود العدو سنة من سنن الكون. وفي ذلك يقول تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً) (الفرقان:31)، ويقول: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:112).
والسر في ذلك – والله أعلم - أن الإنسان إذا أمن خمد، وقل نشاطه واندفاعه. فإذا تعرض أمنه إلى الخطر تحرك وانطلق، وتفجرت طاقاته من مكامنها، وبحث عمن يعينه ويعزز أمنه وحياته؛ فتزداد القوة، ويحصل التماسك بين المجموع. وهذا هو الأساس الواقعي الذي يبنى عليه التجمع والتوحد، الذي هو الشق الآخر للدين بعد التوحيد. بل إن المجموع الذي لا يحس بوجود عدو معين يرتد عدوانه إلى داخله فيتمزق المجموع. يقول جي. إي. براون: من الملاحظ أن الجماعة توجه العدوان إلى داخلها حينما تتوقف الأعمال الحربية. ويقول: إن الناس في حال الضيق يحتاجون إلى الكراهية؛ لأن الكراهية إذا أصبحت منتشرة هي أنجع العواطف توحيداً للناس1.
وليست هاتان الحقيقتان بعيدتين عن دعوة الإسلام وتوجيه القرآن : فنظرية الإسلام
في القتال تقوم على توجيه القوى متوازية إلى الخارج، وهذا هو الجهاد. وتحرم توجيه القوى متقاطعة إلى الداخل، وهذه هي الفتنة. والقرآن يقول: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ
وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَاوَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداًحَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) (الممتحنة:4).
ولأن إبراز وجود الخصم، والتلويح به دوماً أمام أعين المؤمنين ضرورة من ضرورات العمل الصائب لهذا الدين، أكد القرآن على أهمية تحديد الخصم، ووضوح صورته في ذاكرتهم فقال: (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً) (النساء:101) وقال: (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً) (الإسراء:53) وقال: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً) (فاطر:6). كما أنه قال: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55). وما أجمل ما قاله الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى في ظلال هذه الآية: (إن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق، ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحادده ويحاربه إنما هو على الباطل، وأنه يسلك سبيل المجرمين، الذين يذكر الله في آية أخرى أنه جعل لكل نبي عدواً منهم: ((وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين)) ليستقر في نفس النبي ونفوس المؤمنين أن الذين يعادونهم إنما هم المجرمون عن ثقة، وفي وضوح، وعن يقين. إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح. واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات؛ ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتد غبشاً وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم. فهما صفحتان متقابلتان وطريقان مفترقان، ولا بد من وضوح الألوان والخطوط .
ومنهنايجبأنتبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلاماتهم، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلاماتهم بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين).
وقد أجاد المجرمون دورهم في خدمة هذه المسألة العظيمة، والتلويح لشعوبهم وأتباعهم بخطر الأعداء والخصوم، من أجل تنفيذ مآربهم، وتحقيق أهدافهم، كما تفعل أمريكا اليوم. والحال لا يحتاج إلى شرح. كما أجاد أساطين الشيعة الدور في التلويح لشيعتهم بأن الخطر كل الخطر يأتي من ناحية العرب عموماً وأهل السنة خصوصاً. ولغتهم الخاصة غنية بالمصطلحات التي تعبر عن مقاصدهم مثل: نواصب، وهابيين، إرهابيين، تكفيريين، أُمويين...إلخ. هذا إن لم يذكروا أهل السنة باسمهم صراحة. بينما فشل أهل السنة – في العراق خصوصاً - فشلاً تاريخياً ذريعاً في تجلية الخصم أو العدو الحقيقي الذي يهدد وجودهم، ويريد ابتلاعهم وتدمير هويتهم الدينية والقومية، بل والوطنية ! ألا وهو الشعوبيون ، والمستعجمون ، وإيران وذيولها . أو – باختصار – أصحاب التشيع الفارسي الذين يمثلهم عموم الشيعة في عراقنا إلا من رحم ربك. وهذا الفشل الغبي هو الذي خدر أهل السنة خاصتهم وعامتهم، وساعد في تشتيت صفهم، وترسيخ تفككه، وضعف تماسكه؛ لأن قادتهم من الدعاة والمشايخ والعلماء والمفكرين والسياسيين – إلا أقل القليل - دس رأسه في الرمل عن رؤية الخصم الحقيقي، ونصيحة أهله في تشخيصه، وتحذيرهم منه. وظلوا يخادعون أنفسهم بالعبارات التقريبية الزائفة حتى وقعت الواقعة، فلم يبق بيت من بيوت أهل السنة إلا ودخلته الفتنة على يد عصابات الخيانة والغدر الشعوبي: بدءاً باستقدام الكافر المحتل، ومروراً بخدمته، وتقديم جميع أنواع العون والمساعدة له. وبعد (خراب البصرة) - كما يقولون عندنا في العراق – صاروا يتحدثون على استحياء ابنة شعيب إلى (الإخوة) الأعداء. فمن يتحمل المسؤولية؟!! وإذا كان الله جل وعلا قد حذر المؤمنين حتى من الزوجة والولد ووصفهم بالعدو في حالات معينة فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) (التغابن:14) فكيف بمن يغطي الحقيقة الصارخة ولا يحذر أبناء جلدته من العدو الحقيقي الذي انتشر كالسرطان في جميع مفاصل المجتمع؟!
السياسة اللادينية تسلك أسلوب ترهيب الجماهير من العدو المحدد، والسياسة الدينية أو الشرعية تسلك السبيل نفسه. الفرق بينهما في المصداقية والهدف النبيل، وليس في المبدأ نفسه. وبهذا يتبين أن أصحابنا لم يسلكوا لا سبيل الدين، ولا سبيل السياسة. وهذا هو المؤشر على عامة الحركات الدينية في زماننا التي دخلت معترك السياسة. إن أساليبها قديمة، أو لا يحسنون تنزيلها على مواردها، إلا من رحم.
إن العدو الأول لنا في العراق هو الشعوبية وأهلها من عموم الشيعة الموالين لإيران، والسائرين في ركب ذيولها عندنا من أمثال السيستاني وآل الخوئي وآل الحكيم وآل الصدر ومن لف لفهم، وسار في ركبهم. هؤلاء هم أعداؤنا، لا يختلف أحدهم عن الآخر إلا بالدور المكلف به في خدمة المسرحية الجامعة. فالمسرحية واحدة، والهدف واحد وإن تنوعت - أو توزعت - الأدوار بين أعضاء الجوقة. وإذا كنا نعذر أحداً من خارج العراق – لسبب أو آخر - في عدم الاهتداء إلى هذا التشخيص، فلا يمكن الاعتذار لأحد من أهل العراق إذا أخطأ فيه، خصوصاً بعد كارثة الاحتلال، وبروز العمالة الشيعية سافرة فيه إلى البلعوم. يقول د. ماجد العرسان: (الغرب هو التحدي الأكبر لدار الإسلام. وهو تحد عنيد مستمر كلما هلك جيل من الغرب خلَفه جيل آخر ذوي صبر على متطلبات المواجهة وتكاليفها... أما الخطر الشرقي الذي كانت تمثله فارس فقد انهار بعد نطحة أو نطحتين: مواجهة في القادسية وأخرى في نهاوند ثم لا فارس بعد، وإنما تحولت إلى منعطف جديد استمر في أيامنا الحاضرة)1. وأنا وإن كنت لا أهون من شأن الخطر الغربي، لكنني لا أرى التهوين من شأن الخطر الشرقي يقوم على أسس علمية: لا واقعية ولا تاريخية. وأصحاب هذا التنظير إنما يحملهم عليه عدم اكتوائهم بنار المؤامرات الفارسية المستمرة على العراق وأهله. وذلك لبعدهم عنها، ما يؤدي إلى سهولة انخداعهم بمعسول كلام الفرس ودعاواهم الكاذبة. وهذا هو الذي يجعلهم في غير ما حاجة إلى قراءة تاريخ العراق القديم والحديث، وإذا قرأوه لا يركزون على المفاصل الحرجة الخاصة به؛ لأنهم ليسوا من أهله. وهذا شيء طبيعي، ولو
كنتُ أنا من غير العراقيين لربما حذوت في ذلك حذوهم. فأنا لا أنتقد الشخص نفسه، وإنما أنتقد تقريره، وأعتذر له. كما أقول له ولغيره: إن التاريخ يشهد أن جميع الحضارات التي قامت في العراق منذ فجر التاريخ وإلى يوم الأربعاء الأسود (9/4/2003) كانت نهايتها على يد الفرس: إما مباشرة أو بالواسطة. أما الواقع فما عاد في حاجة إلى بيان! وأما (النطحة والنطحتان) الواردة في الحديث الشريف فلا تشير إلى أكثر من زوال دولة الفرس الرسمي، على غير ما كان عليه الأمر بالنسبة إلى الروم. وقد تحولت فارس بعدها إلى أكبر مستودع وأخطر حاضنة للنفاق والحركات النفاقية على وجه الأرض. وقد قامت بأخطر الأدوار في التاريخ في الكيد لدولة العرب والمسلمين. وكثيراً ما تحالف الفرس مع الصليبيين لمحاربة دولة الإسلام،
وهم الذين تآمروا معهم على عهد الصفويين فأوقفوا الفتح الإسلامي داخل أوربا.
وجود العدو ضرورة لتوحيد الجمهور: وأخيراً أقول لكل العاملين من أهل السنة وخصوصاً السياسيين: إن توحيد الجمهور وتجميعه لا يمكن أن يتم من دون أن تثار لديه غريزة الحياة وحب البقاء من خلال شعوره بخطر يتهدده من قبل عدو يتربص به. ومن أوضح الأدلة على ذلك موقف أهل السنة من الدستور وزحفهم بالملايين للتصويت ضده، يوم شعروا بالخطر الداهم الذي يستهدف وجودهم، ويغتال هويتهم. وكذلك موقفهم من الانتخابات التي تلته، واندفاعهم لها دفعاً للخطر الداهم. فالحب وحده والتسامح الأبله بضاعة الضعفاء الحالمين، وديننا دين القوة والواقع. وليس من خطر أكبر من خطر الشعوبية، التاريخ والواقع يثبت ذلك. ولسنا في حاجة ولن نرضى بمن لم يقرأ تاريخنا، ولا يعيش واقعنا.
فنصيحتي لكم إذا أردتم النجاح في الوصول إلى أهدافكم أن تجمِّعوا الناس في العراق حول هذه القضية الكبرى. وإلا فإن أخوف ما أخافه - إذا خرج المحتل - أن ترجع إليكم لوثتكم الترضوية القديمة، وعندها سينفض الناس عنكم كل إلى (حال سبيله)؛ فما عاد من خطر يجمعهم. في الوقت الذي يكون فيه جمهور الشيعة متحفزين تمام التحفز للإجهاز على البقية الباقية من جمهوركم. (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ*وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ*وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ) (النجم:59-61).
كل عظماء العراق حاربوا الفرس: كما أعظكم بواحدة، وأذكِّركم بحقيقة عظيمة هي أن كل من برز من قادة العراق ورجاله في كل أدوار التاريخ إنما انبنت عظمته وشهرته على موقفه من المد الفارسي. واذكروا إن شئتم أوتوحيكال وسرجون وحمورابي ونبوخذ نصر وآشور بانيبال وسميراميس، والنعمان والمثنى وزياد والحجاج والمنصور والرشيد، وصلاح الدين. حتى الإمام أحمد فإنه لم يكن مجرد عالم قاده التطلع العلمي والواجب الديني المجرد إلى ما قاده إليه. إنما كان صاحب قضية لا تختلف عن قضيتنا اليوم، تصدى من خلالها للمد الشعوبي متمثلاً بهجمته على العروبة، والقرآن، والحديث النبوي، والعقيدة الإسلامية؛ فدافع عن فضل العرب، ونافح ضد الزمرة الشعوبية والبطانة الفارسية متمثلة بابن دؤاد وزمرته القائلين بخلق القرآن، ووقف ضد محاولات الزنادقة العجم واختلاقهم للأحاديث الباطلة ونشرها بين الناس ودسها في كتب الحديث. وكان في ذلك كأنه الشخص الذي تجمعت فيه أصالة العراقيين، وتاريخ بني شيبان فظهر – وما كان للعراق إلا أن يظهر فيه مثله - ليمثل كرم الأصالة، وعنفوان التاريخ. وقد كان صدام حسين قارئاً جيداً للتاريخ حين ابتدأ ولايته بالتصدي للهجمة الفارسية السوداء. ولولا بعض العوارض ومنها ما ارتكبه من أخطاء بعد ذلك، وما هو معلوم من سيرته لكان من أعظم القادة في تاريخ العراق. على أنني أقول: إن الشوط ما زال بعيداً ليقول التاريخ فيه قولته، ويحكم عليه بحكمه، ومن عاش فينا سيسمع عمن تصدى للريح الشرقية الصفراء وأذل خشم نافخ كيرها (لع)، وجرعه كأس السم، وحرر المحمرة والأحواز غير ما يسمعه اليوم. وهكذا فكل من أراد أن يقود العراق لا يمكن أن يقوده ما لم يتقدم بموقف كبير يتصدى به لإيران وذيولها من الشعوبيين والشيعة المتفرسين. والمستقبل بيننا حكم، إن لم ينفع المنطق والشرع والتاريخ. (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (غافر:44).
7. العلاج بالصدمة
مما تعلمناه على عهد الدراسة الطبية أن بعض الأمراض النفسية لا يعالجها شيء مثل تعريض المريض إلى صدمة علاجية، أو رجة كهربائية. فالمريض الذي يعاني من رهاب بخصوص بعض الحشرات كالصراصر مثلاً يعالج بإدخاله إلى موضع يعج بالصراصر ويقفل عليه الباب وهو معها، وبعد أن يصرخ ويصرخ تتفرغ شحنته العُقدوية ويشفى مما به من مرض. والعلاج بالكهرباء معروف لكل الناس، سواء بالنسبة إلى الأمراض النفسية أو الجسدية، فالسكتة القلبية مثلاً لا ينقذ المصاب منها كما ينقذ بالرجة الكهربائية. وأعتقد أننا نحتاج لمثل هذا العلاج مع الشيعة، ومع السنة أيضاً. أن نصدمهم بالحقيقة المرة، ونصكهم بها في آذانهم، ودعك من صراخهم؛ فقد وصل المرض إلى حد الغيبوبة.
8. الهجوم
"الهجوم خير وسيلة للدفاع" حكمة معروفة في أوساط الناس، وإن كانت في الأصل قاعدة من قواعد العلم العسكري. كما أنه من المعروف عسكرياً أن الدفاع لا يحقق النصر، إنما النصر يكمن في التعرض للعدو والهجوم عليه. وغاية الدفاع هو رد الخصم دون دحره، ما لم يتبع ذلك بمطاردته، أي الهجوم عليه. وكذلك الشأن في المعارك العقائدية والثقافية. المهاجم يشغل خصمه بالدفاع عن نفسه، وبذل الجهد في تبرير مواطن الضعف التي وجهت إليها سهام النقد، ومحاولة سد الثغرات التي تنفذ منها تلك السهام. وكثيراً ما يركن إلى الموادعة والسكوت طمعاً في سكوت المقابل، واستجداءً لعطفه وموادعته. وهكذا يبدأ الانهيار الثقافي، وتغزى الأمم في ثقافاتها ومرتكزاتها الفكرية والعقيدية، تمهيداً لغزوها عسكرياً وهزيمتها ودحرها في ميدان القتال. وهذا هو شاهد حالنا اليوم في العراق.
والناظر في دعوات الأنبياء عليهم السلام، وكل الدعوات التغييرية الأخرى – الإصلاحية منها والإفسادية – يجد أنها لم تقف من مجتمعها أبداً موقف الدفاع، وإنما بدأت بتحديد مواطن النقد أو الخلل، ثم راحت تهاجمها علناً وعلى رؤوس الملأ. والقرآن الكريم وسيرة النبي وغيره من الأنبياء عليهم السلام تشهد بوضوح على ذلك. وأكتفي بموضع واحد من القرآن هو قوله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيم لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة:4).وتأمل ما في هذا الأسلوب من نتائج تغييرية جماعية بشرط أن تأخذ استحقاقها الزمني، وتتوفر لها الأرضية الصالحة للتحرك، وذلك ما لم يحصل لسيدنا إبراهيم : الإعلان القوي بالبراءة وإظهار العداوة وإبداء البغضاء والكراهة يؤدي إلى هيجان المجتمع، وزلزلته فتنتشر الدعوة وتصل إلى كل زاوية فيه، وتثور المناقشات والمجادلات، ويحصل تبادل في الأفكار والآراء. كل ذلك بسرعة لا تقارن بها سرعة حدوث هذه التفاعلات في حالة الأساليب الترضوية، فيكثر المؤمنون من طلاب الحقيقة، وتهتز قناعات الآخرين. يحدث هذا على مستوى المجتمع كله، وليس على مستوى أفراد معدودين. وعندها يمكن استغلال النتائج الحاصلة واستثمارها لإكمال الشوط إلى نهايته كما فعل الرسول .
من هذه النقطة، من البراءة والعداوة تبدأ الخطوات المباركة نحو التغيير الجماعي كما يشير إلى ذلك قوله تعالى في سياق الآيات السابقة: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الممتحنة:7) لا كما هو ديدن الترضويين الذين يتطيرون من كل ما يمكن أن يثير إزعاج الآخر، أو يعكر صفو مزاجه الرائق، وذوقه الرفيع.
أما المدافع فيمثل الكفة الأضعف في المعادلة، ولولا ضعفه لما غزي في عقر داره؛ فإنما يغزى الضعاف. ولولا ضعفه لكان هو الذي يبدأ ويغزو ويهاجم.
حين رجعت من الحلة إلى بلدتي (المحمودية) أواخر عام 1997 كانت الأسئلة تنهال عليّ من قبل الشباب السني: هل صحيح أن الرسول أخذ البيعة لعلي عند غدير خم؟ ما معنى آية الولاية؟ وهل أن علياً تصدق في صلاته بخاتم فنزلت الآية بسبب ذلك؟ وما علاقتها بالإمامة؟ ما تقول في معركة الجمل؟ ولماذا (خرجت) عائشة على علي؟ هل صحيح أن عمر قال عن النبي : إنه يهجر؟ وأن ذلك في صحيح البخاري؟ ما دليل الأوقات الخمسة في الصلاة والله يقول: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) (الإسراء:78)؟ وكانوا يأتونني بأحاديث عديدة مشكلة في البخاري ومسلم يحتج بها الشيعة عليهم فلا يستطيعون الإجابة الشافية عنها. وغيرها وغيرها من الأسئلة والإشكالات التي صارت تشغل عقول أبناء السنة، ويتلفتون حولهم، ويذهبون إلى المساجد فلا يسمعون ما يُروي غليلهم ولا يشفي عليلهم، سوى كلمات (التقريب) وعبارات من مثل: لا فرق بين الشيعة والسنة، الدين واحد والرب واحد إلخ... ونحن نحب أهل البيت، وأهل البيت كذا.. وكذا. وما شابه ذلك من العبارات الانهزامية التي جرأت على حمانا صعاليك الأرض، وشذاذ الآفاق.
ومن خلال ذلك توصلت - بما يشبه القناعة – إلى أن الحال إذا استمرت على ما هي عليه فإن العراق سيتحول إلى شيعة خلال خمسين سنة! إن التقهقر إلى الدفاع أول الخطوات في طريق الهزيمة.
وكنت أوجه السائل - بعد أن أجيبه على سؤاله وأوضح له حقيقة الأمر – إلى أن يهاجم لا أن يدافع، وأن يورد هو الإشكالات على الآخر ولا يكتفي بتلقيها منه. وأزوده بمجموعة منها. وكنت أقول للسائل وغيره: بدلاً من أن يشغلوكم بعشرين حديثاً مشكلة في البخاري أشغلوهم بألوف من الروايات الساقطة في كتاب الكليني. وبدلَ أن يشغلوكم بعدة آيات مشكلة من القرآن قولوا لهم: (إن هذه الآيات كلها متشابهة، فأتونا بآية واحدة محكمة شاهداً على أعظم أصولكم ((الإمامة))فما دون؛ ونحن نسلم لكم بما تقولون). خذوا زمام المبادرة واهجموا ولا تدافعوا. قولوا لهم: (إن أصولكم باطلة لا أساس لها من محكم القرآن، وإن رواياتكم موضوعة وصلتكم عن طريق الزنادقة والكذابين). لا تشغلوا أنفسكم بذكر حبكم لأهل البيت فإن هذا لن ينفع معهم، وألقوا في أحضانهم بفضيحة كراهة الصحابة وسبهم والطعن بأشرف النساء وأطهرهن أمهات المؤمنين. وبدل أن تدندنوا حول كونكم من محبي أهل البيت وأتباعهم قولوا لهم: (أنتم مخالفون لأهل البيت ولا علاقة لكم بهم ما دمتم تخالفون منهجهم ودينهم. إن أهل البيت بريئون ممن يغلو فيهم ويرفعهم إلى مصاف الأنبياء أو مرتبة الإله. إن هذه العقائد التي أنتم عليها فارسية مجوسية لا ينفع معها التستر ولا الترقيع). هاجموا إيران وكل من انتسب إليها من الشعوبيين والمستعجمين. دعوهم يشعرون بالنقص تجاه عقائدهم وعمالتهم وحبهم لإيران، وسترون النتيجة!
وتلقف الصادقون المخلصون الفكرة وساروا بها، فما مرت سنتان حتى انعكس الأمر وتغيرت الحال إلى الضد تماماً، إلى درجة أن أحدنا صار لا يكاد يجد شيعياً يقبل الوقوف معه للنقاش! بل إنه يهرب عند أول إشارة لتحول الحديث إلى الموضوعات الخلافية، ويطلب التوقف أو الانصراف متحججاً بأن مراجعه أمروه بعدم الخوض في مثل هذه المسائل. فكنت أضحك وأقول: لقد قطعنا شوطاً كبيراً باتجاه الهدف. هذا هو الطريق، فيا ليت قومي يعلمون!.
يقول أحد علماء الاختصاص الغربيين وهو جي. إي. براون: أكبر غلطة ارتكبتها الدعاية الألمانية (في الحرب العالمية الأولى) أنها كانت دفاعية باستمرار، باذلةً جهودها في التأكيد على أن الدعاية الموجهة من قبل الحلفاء كانت غير صحيحة وغير منصفة.وفي هذا انتهاك لواحدة من أُولى قواعد الدعاية وهي أن رسالة صاحب الدعاية ينبغي أن تكون إيجابية باستمرار. إن محاولة تصحيح أخبار الدعاية ((غير المنصفة))تؤدي إلى شيء واحد وهو إحياء العبارات التي استعملتها الدعاية المعادية في أذهان من تلقوها، ونشرها بين الذين لم يكونوا ليسمعوها لولا تلك الطريقة1.
لقد اعتمد الشيعة على مبدأ الهجوم والدعاية في نشر أباطيلهم . أما نحن فغاية ما فعلناه هو الدفاع والدفاع الضعيف وباستمرار خصوصاً في منابرنا العلنية التي هي المصدر الأهم في تثقيف المجتمع وتعرفه على الحقيقة2.
9. النفرة
صحيح أن هذه الأساليب تتسبب في نفرة المجتمع في بداية الأمر ، وإثارة المشاكل
كما حصل لرسول الله . ولكن ذلك ليس دليلاً على عدم جدواها. بل العكس هو الصحيح. وليس العلاج بالترك والنكوص. ومن قال بذلك فإنه لا يعرف مراحل العلاج أو محطات السير.
لقد واجه الرسول هذه المشكلة مشكلة نفرة الناس عنه، لكنه لم يسعَ إلى تجنبها
بكل وسيلة، حتى ولو كانت هي المجاملة أو التخلي عن الصدع بالحق والجهر بإنكار ما عليه النافرون من باطل طمعاً في تقريبهم كما هو حالنا اليوم. بل واجههم بما يزيدهم نفوراً حين شبههم بالحمير! فقال تعالى: (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ*كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) (المدثر:49-51). وحمّل نفوسهم المريضة بالكبر، وعدم الخوف من الآخرة مسؤولية الإعراض عن الحق فقال: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً*كَلا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ) (المدثر:52،53). ولعل في صيغة (استفعل) في كلمة (مستنفرة) ما يشير إلى أن النفرة عن الحق مركوزة في نفوسهم؛ فهي مطلوبهم ومبتغاهم، فالأمر كما قال سبحانه عن ثمود: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (فصلت:17) فجاء التعبير في كلمة (استحبوا)بصيغة (استفعل)، أي هم أرادوا واختاروا وطلبوا العمى وحملوا أنفسهم عليه!
ثم بيَّن من موقع الفوقية والعلو والعزة أن من شاء الهداية فليفعل، ومن لم يشأ فالأمر متروك له. على أن الهداية شيء عزيز لا يوفق الله إليه إلا من يستحقه. وقد لا يكون هؤلاء مستحقين لذلك، فقال جل شأنه: (كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ* فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ*وَمَا يَذْكُرُونَ
إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) (المدثر:54-56).
فمن قال: إن نفرة النافرين حجة على صحة الدعوة، ومقياس لخطئها من صوابها، فليس ممن يفقه سنة التغيير، ولا ممن قرأوا التاريخ جيداً، أو وقف يوماً يتمعن الآيات السابقة، وما في معناها من كتاب الله.
بل أستطيع أن أقول (وهذا ما ذكرته في كتابي السالف الذكر): إن التغيير الجماعي يبدأ من هنا؟! من الإثارة والنفرة وتحريك السواكن الجامدة والعقول الخامدة. وإنه ما من دعوة من الدعوات نجحت إلا وبدأت هذه البداية.
نعم!سينفر المجتمع أولاً.وهذا لا ينبغي أن يجرك إلى أن تغير خطتك أو تنحرف عن خطك. بل استمر في سيرك ودعوتك وأعلِ من نبرتك وهذا سيؤدي إلى.. نفور أكثر! فاستمر على ما أنت عليه وسترى!
سيأتي يوم فيه يصمتون. عندها أعلم أنهم أصيبوا بالذهول، وأن الصدمة قد بدأ مفعولها وأنهم بعد حين تتحرك خلايا أدمغتهم الجامدة المتحجرة وتتشكل من جديد لتبدأ بالانتباه بشيء من الجدية إلى ما تدعو إليه، والتفكر فيه. سيقولون في أنفسهم: لولا أن ما يدعو إليه هذا الداعي حق لما تمسك به هذا التمسك، فهل نحن حقا على باطل؟! وهذا أول علامات الوهن والانهيار في جدار الباطل. إنه الصمت والتأمل.
وهنا يتحول أهل الباطل من حالة الهجوم وإلقاء الشبهات والضجيج والمطالبة بعقد حلقات الجدل والنقاش إلى حالة أخرى تتمثل بالهروب وعدم المواجهة، والاكتفاء بحالة الدفاع عند الاضطرار. فاعلم أنك قد قطعت شوطا كبيرا في سيرك بالاتجاه الصحيح.
لقد انتهت مرحلة وبدأت مرحلة أخرى. انتهت مرحلة الهجوم، وبدأت مرحلة الدفاع. عليك هنا أن تستثمر الحالة وتحول دفاعك إلى هجوم لتقضي على آخر سواتر المقاومة لخصم قد انهزم نفسيا وفقد الحماس في الدعوة إلى أفكاره المنحرفة التي بدأت تتزعزع ثقته بها حتى مع أبنائه وعائلته. أي أن الجيل القادم سيكون ضعيف التعلق بباطله ويكون - هو والجيل الذي بعده - من حصة أهل الحق إن شاء الله.
إن الجيل الأول عموماً لا بد أن نقبل خسارته ونفرته -هذا على أسوأ الاحتمالات - ثمناً لربح الأجيال القادمة بشرط أنْ تتضافر الجهود للدعوة بهذا الأسلوب وأن لا يقف الترضويون حاجزاً أمامها يصدون ويوعدون مع أملنا بالمخلصين منهم أن يلتحقوا بالركب السائر في طريق الأنبياء.
على أن هذا لا يلزم منه أن لا تظل عصابة - لا سيما الرؤوس والمنتفعون والمغرضون - تثير الفتن وتحاول الكيد بشتى الوسائل والأساليب.
وهكذا فعل رسول الله . وبغض النظر عن تفاصيل المراحل التي مرت بها دعوته - إذ لكل مرحلة ظرفها الذي يصنعها مما يؤدي إلى اختلاف أو تشابه المراحل بين الدعوات وقد تختلف في تفاصيلها تبعا لتشابه الظروف وتسلسلها – فإنه صدع بالحق وجهر بالدعوة وسفه آراء المجتمع وضلل آباءهم وشتم كبراءهم وفضحهم وفضح أباطيلهم.
ولولا هذه الشدة وهذا الهجوم العنيف لما رضخ المشركون وجاءوا إليه صاغرين يتوسلون - للوصول إليه - بالملك والمال والنساء، مقابل شيء واحد هو أن يدعهم وشأنهم. بل كانوا يطلبون إليه أحيانا أن يسكت مجرد سكوت عن تضليل آبائهم وتسفيه
آرائهم، ولكنه يصر - في مقابل ذلك كله - على ما هو عليه! فماذا كانت النتيجة؟
تقربوا إليه أكثر فعرضوا عليه حلاً وسطاً أن يعبدوا إلهه وحده فترة ويعبد آلهتهم مثلها. لكنه يجيبهم بصراحة وغلظة ويرمي بها في وجوههم:قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ*وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ *وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ *وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ *لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ.
هذا هو المنهج. فمن وجد في نفسه القوة وعلو الهمة، فليمض على نوره وهداه، وإلا فليدع الخلق وشأنهم.
10. لا بد من المشكلة
قال لي أحد (ركاب المنابر) في مدينتنا منتقداً ومعنفاً: أنتم تعملون مشاكل، وتفقدون منابركم. لقد مر بي في مسجدي عشر سنين لم أعمل مشكلة. فأجبته: لأن أبقى في مسجد سنتين أقول فيهما (كلمتي) وأمضي، خير لي من أن أظل أدور في مكاني عشرين سنة وكلمتي في حلقومي، كلما أردت قولها غصصت بها حذر المشاكل. أما إنك لو بقيت مائة سنة ما قلت شيئاً، ولا فعلت. ما الفائدة من صعودكم المنابر، إذا كان اليوم الذي تغادرونها فيه كأنه هو اليوم نفسه الذي طرقتم فيه خشبتها أول مرة، لم يتغير من حالكم ولا حال الناس شيء؟!!
والحقيقة أن مكلمي هذا كثيراً ما حصلت له مشاكل، ومع المصلين، لا غيرهم! ولكن غالبها شخصية، وليست من أجل الدين أو (القضية).
ومن فوق منبر جامع (أم القرى) قال "الصميدعي" في خطبة جمعة في ربيع سنة (2006) متحدثاً عن المجازر التي يتعرض لها أهل السنة: "سنطالب الحكومة بوقف نزيف الدم، وإلا.. (وإلا ماذا أيها السميذع؟) وإلا سنرفع شكوى إلى المنظمات العالمية من أجل التدخل لعلاج الكارثة". وعلى طريقة (شر البلية ما يضحك) أقول: يذكرني هذا بطرفة تروى عن جحا. قيل: إنه ذهب يوماً إلى قرية بعيدة لا يعرفه أحد من أهلها، فسرق حذاؤه. فما كان منه إلا أن قال مهدداً: ائتوني به، وإلا فعلت بكم ما فعل أبي من قبل. ونظر القوم إلى عمامته وهيئته فهابوه، وحسبوه أميراً من الأمراء. فأجهدوا أنفسهم حتى وجدوا حذاءه، وجاءوه به. ولما لبسه وتحرك لينصرف قالوا له: هلا أخبرتنا عن أبيك ماذا فعل من قبل؟ وبكل بساطة أجابهم: لقد سرق حذاؤه، ولما لم يجده له أحد ذهب إلى بيته حافياً!
انظر إلى هذا. ثم انظر إلى قوله تعالى: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ) (الأنعام:34).
قلت في ضوء هذه الآية وما في معناها من قبل: كل دعوة نجحت على مر التاريخ شكلت في زمانها مشكلة اجتماعية كبيرة في مجتمعها في أول مرحلة من مراحلها!
خذ الثورة العلمية الأوربية مثلاً: كم عانى العلماء من الاضطهاد والتشريد والقتل والتحريق على يد الكنيسة! لو لم يشكل أولئك العلماء الأفذاذ المناضلون مشكلة كبيرة هددت الوجود الباطل لدى (رجال الدين) هل كان يحدث هذا؟ ولو لم تمر تلك الدعوة أو الثورة بهذه المرحلة أو المشكلة أكان بالإمكان أن يكتب لها النجاح؟
تصور! لو أن كل عالم أسر بما عنده لمن يثق به فقط ، واقتصر بدعوته على مجالسه الخاصة. أما في العلن والمحافل والمنتديات فيجري تمجيد الخرافة على حساب العقل، ومجاملة الجهل على حساب العلم، ومداهنة الكنيسة تجنباً للمشاكل – هل كان قد حصل التغيير المطلوب؟! بل ستذهب دعواتهم هواءً في شبك، وصيحة في واد.
والأحناف الموحدون كانوا موجودين في المجتمع العربي. ولقد كانوا يتمنون الإصلاح ويقومون ببعض ما عليهم من بيان للتوحيد وإنكار للشرك ولكن.. بـ(هدوء) ودون إثارة، وبالقدر الذي لا يسبب (مشكلة). فهل استطاعوا إصلاح المجتمع وإحداث التغيير المطلوب؟ كلا.. هل تعلم لماذا؟ لأن الطبخة لم تنضج على نار (المشاكل) التي لا بد منها ليكون الطعام سائغ المذاق. لقد كانوا يدركون حجم ما يسببه لهم التغيير والإصلاح من مشاكل ما كان عندهم الاس